رحيلُ الحُسَين.. كرامةٌ وسيادة
مطهر يحيى شرف الدين
لستُ عبر هذه السطور بصدد نقلِ حدثٍ ما أَو كشفِ حقيقة تم تغييبها عن الأجيال مئات من السنين أَو قضيةٍ تم دفنها مراحلَ تاريخية، فالمرءُ أياً كان ومهما كانت ذاكرته مليئةً بالتاريخ وبالأحداث فلن يستطيعَ أن ينقُلَ أَو يرويَ التفاصيلَ الدقيقةَ والكاملةَ لحدثٍ أَو مرحلةٍ أَو قضية كما هي.
إلا أن ثمة دوافعَ ذاتيةً إنسانية وقيمية قبل أَنْ تكونَ دينيةً تجعلُ القلبَ المكلوم يوحي إلى الجوارح بالحديث لكشف الشيء اليسير من معاناة هي الأَمَرُّ ألماً وحزناً وهي الأشد وجعاً من وقع الحسام على الرقاب، وأنّ قراءةَ جزءٍ يسير من المشروع التحرّري والرسالة الحُسينية التي قام من أجلها إمامٌ لا يختلف عليه اثنان في إيْمَـانه وعدله وفي إخلاصه لدينه وأمانته وفي عهده وولائه لله ولرسوله واجبٌ على كُـلّ إنسان يحمل ضميراً حياً ويتحملُ مسؤوليةً دينية وتاريخية وأَخْــلَاقية تجاه الدين الإسْــلَامي الحنيف.
كما لا يختلف اثنان على مَن وُصف نفاقاً بخليفة المسلمين في ظلمه وجَوره وفي خيانته لله ولرسوله وفي فجوره ومجونه وفي لهوه وضلاله.
الإمَـام الحُسين -عَلَيْـهِ السَّــلَامُ- وعلى روحه الطاهرة السلام أبى إلّا أن يخرُجَ في طلب الإصلاح في أُمة جده رَسُــوْل الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد نفَّذ العهدَ الذي قطعه على نفسه بقوله “إن كان دينُ محمدٍ لم يستقم إلا بقتلي فيا سيوف خُذيني”.
وتلك هي سيوفُ وسهامُ الغدر والإجرام التي حملتها جيوشُ بني أُمية قد أخذته دماً ورأساً لكنها لم تأخذه اسماً وديناً ولم تأخذهُ سيرةً وقيماً ولم تأخذهُ تاريخاً ودروساً، بل إن ذلك الدمُ الشريف ظلّ وسيظل يلاحقُ الطغاة المجرمين إلى عُقر دورهم وأضحى لعنةً يتلوها التاريخ في جميع مراحله على من قاموا بالأمر بالقتل والتمثيل والتحريض والمشاركة والتواطؤ في مواجهة الحُسين وأصحاب الحُسين ونساء وأولاد الحُسين.
تخطيطٌ وتآمر مسبَقٌ في ملحمة الطّف من قبل ثلةٍ مجرمة على سفك تلك الدماء الطاهرة الزّكية التي سُفكت بلا أدنى رحمة وقد أغرق يزيد الخمّار خزائن بن مرجانة وبن سعد وبن ذي الجوشن بالأموال والأعيان وامتلأت مع ذلك قلوبهم حقداً وغيظاً على أئمة آل البيت عليهم السلام.
ولذلك سيبقى التاريخ شاهداً ودليلاً على مظلومية الحُسين وأصحابه وأهله وشاهداً على إجرام المجرمين وعلى مساسهم وَانتهاكاتهم لحرمات آل بيت النبوة عليهم السلام وعلى قتلهم للأحلام والآمال الجميلة التي ارتسمت في مُحيا اليواقيت المضيئة التي رافقتِ الحُسين ومشت بكبرياءٍ وشموخٍ تطلبُ حقاً وترفعُ رايةً وتسقطُ باطلاً وقف أصحابهُ مناهضين لشعارٍ طالما عبر عن سيادة الأُمة وكرامتها وعزتها.
شعارُ “هيهاتَ منا الذلةُ” الذي رفعه الحُسينُ في وجه أعداء الأُمة الإسْــلَامية وأدعياء حماة الدين الإسْــلَامي كان هو المبدأَ وهو ترجمةً للغاية التي جاء من أجلها ديننا الإسْــلَامي وما جاء به القُــرْآن الكريم في قوله تعالى “كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ”.
أراد الله لهذه الأُمة أَنْ تكونَ هي خيرَ الأمم وصفوتَها، أراد الله لها أَنْ تكونَ ذاتِ عزةٍ وكرامة وأَنْ يكونَ لها القرارُ السيادي وأَنْ يكونَ لها النفوذ على بقية الأمم لا أن يأتي من يهادن أعداء الإسْــلَام من اليهود والنصارى ويجعلهم المستشارون وأن يرعى القرود ويعاقر الخمور فيعلن نفسه أنه مُمثلاً لأُمّة محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم وقد قال -سُبْــحَانَــهُ وَتَعَالَـى-: “ولتَكُن مِنكُم أُمّةٌ يَدعُونَ إلى الخَيرِ ويَأمُرونَ بالخَيْرِ ويَنهَونَ عنِ المُنكَر”.
واستجابةً للأمر الإلهي يُعلن وَيُثبت الإمام الحُسين مقولته الشهيرة: “إنما خرجتُ في طلبِ الإصلاح في أُمَّــةِ جدِّي رَسُــوْل الله”…
ولذلك ستظل قضية إصلاح الأُمَّــة التي خرج من أجلها الإمام الحُسين هي القضية العادلة التي تتكرّر في كُـلّ زمان وَمكان وسيبقى المشروع النهضوي التحرّري الحُسيني متجدّداً يواجه من أجله كُـلّ الأحرار في هذا العالم قوى الوصاية وَالإجرام والاستكبار.
وستبقى شعارات الحُسين الخالدة وكلمات زينب المزلزلة وحديث زين العابدين الحُجة عليهمُ السلام أمضى من سيوف أعدائهم وأفتك من رماحهم، وسيستمر نهوضُ جميع الأجيال في كُـلّ العالم لتنتصر لدين الله وَللدم الحُسيني الذي سيبقى عنواناً وتاريخاً وسيرةً ودروساً راسخة ومحفورة في ذاكرة الأجيال المتعاقبة لتُعلمَهم الفداء والتضحية في سبيل نصرة دين الله وإعلاء كلمته..
فسلامُ الله عليك يا حُسينُ، وسلامُ الله على أصحابك وأولادك ولبيك لبيك يا سليلَ النبوة ويا فؤادَ أُمِّكَ الزهراء ويا ريحانةَ المصطَفى صلواتُ الله عليهِ وآله الطَاهرِين..