الملحمةُ التاريخية
د. فاطمة بخيت
عندما خلق اللهُ هذا الكونَ الواسعَ وضع له نظاماً دقيقاً وحدّدَ له خطًّا مستقيماً؛ لتصحيح مساره، وبما أنّ الإنسانَ هو جزءٌ من هذا الكون، وُضِعَت له سُنَنٌ يسيرُ وَفْقَها؛ لحمايته من الزيغ والضلال، ولكن عندما انحرف عن السير عليها حلت الفوضى وانتشر الفساد، وأصبحت الأمةُ تسيرُ على غير هدى في هذه الحياة، وأصبح أعداءُ الدين والإنسانية هم مَن يمسكون بزمام أمورها.
ولم يكن ذلك هو وليدَ عصرنا الحاضر، بل إنّه ضاربٌ في القدم ومنذ العصور الأولى لحياة البشر على هذه الأرض؛ لذا كان من تلك السنن أن أرسَلَ اللهُ الأنبياءَ والرسلَ؛ لتقويمِ الانحراف الذي قد يحل بأيَّةِ أمةٍ من الأمم ورَدِّها لجادَّة الصواب، لكن ما حَلَّ بالأمة في عصرنا الحاضر قد لا يكونُ حَلَّ مثلُه بأيَّةِ أمةٍ من الأمم، والذي تجلّت معالمُه بعد رحيلِ خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وآله وسلم بدون مدة زمنية تُذكر، في الوقت الذي لا زالت الأمةُ حديثةَ عهد بالوحي والرسالة المحمدية.
لكن على الرغم من ذلك الالتواء على الدين يأبى الله (إِلَّا أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، فيأتي التدخلُ الإلهي على يدِ أعلام الهدى من أهل بيت النبوة -عَلَيْهِمُ السَّــلَامُ-؛ لانتشال الأمةِ من الوضع المتردي الذي وصلت إليه، بدءاً بالإمام علي -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- الذي استشهد وهو يقاومُ أئمةَ الضلال، يليه الإمامُ الحسن -عَلَيْهِ السَّــلَامُ-، ومن بعده الإمامُ الحسين -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- والذي نعيشُ ذكرى استشهاده.
لقد ظَنَّ طاغيةُ عصره يزيدُ بنُ معاوية بجهله وحماقته أنّ تربُّعَه على كرسي الحكم قد يمكّنه من أخذ البيعة ممَّن تجسدت فيه تعاليمُ الإسْــلَام ومعالمُه كالإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّــلَامُ-، وهو يزيدُ المشهورُ بفِسْقِه وفُجُوره، المستهتر بالإسْــلَام وتعاليم الإسْــلَام ورسول الإسْــلَام؛ لذلك كانت بداية المواجهة بين الخير وبين الشر والحق والباطل والعدل والظلم.
رفض الإمامُ الحسينُ البيعةَ وانطلق صوبَ مدينة جده رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليستنهضَ الأمةَ لعلَّها تفيقُ من سُباتِها العميق وتدركُ ما قد يحلُّ بها إن تمكَّنَ ذلك الطاغية من رقابها، لكن بدا له من موقفهم أنّه قد نال من مدينة جده ما نالها من الجُمُود والتخاذل والخنوع للمفسدين والظالمين؛ لذا ما كان منه إلا أن توجّـه إلى مكة، حيث موسم الحج واجتماع الحجيج لأداء مناسك الحج؛ ليذكِّرَهم بما يجبُ أن يكونوا عليه في مواجهة الباطل والتحديات التي تتهدّدُهم إنْ بقي يزيدُ بنُ معاويةَ في السلطة، كما أنّه كان يذكّرُهم أن الهدفَ من خروجِه إنّما لطلبِ الإصلاح في الأمةِ بقوله: إني لم أخرج أَشِراً ولا بَطِراً ولا تكبُّراً ولا ظالماً ولا مفسِداً، إنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي.
لكن على الرغم من المواعظ والخُطَبِ التي كان يلقيها على مسامعِهم، إلا أنّه يبدو أنّهم أَيْـضاً قد وصلوا إلى وضعية خطيرة من الانحراف والضلال، فتجرّدوا من القيم والمبادئ الدينية، فأصبحوا خانعين أذلةً يقبلون بأيِّ شيء، وعاجزين عن اتّخاذ أية قرارات مصيرية فيها عزتُهم وكرامتُهم، فلم يعد يجدي فيهم الاستنهاضُ للتحَرّك والثورة في وجه الطغاة.
وعندما خذله القومُ اتّجه بعدَ ذلك صوبَ العراق؛ استجابة لدعوات أهله المتكرّرة للمجيء إليهم، فلربما كان هناك مَن يحملُ روحيةَ الثورة في وجه الطغاة والمستكبرين، لكن ما إن وصل إلى هناك حتى نكَصَ القومُ على أعقابهم وتراجعوا عن مواقفِهم واستلُّوا سيوفَهم ضده، برغم معرفتهم مَن هو الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- ومنزلته من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأحاديث التي قالها في فضائلِ ذلك الإمام العظيم.
وما أن حَطَّ رحالَه على أرضِ كربلاءَ حتى كانت المواجهةُ، تلك المواجهةُ التاريخية بين معسكر الحق ومعسكر الباطل والخير والشر، وعلى الرغم من عزم القوم على القضاء على الإمام الحسين، إلا أنّه كان لا ينفكُّ يَعِظُهم ويذكّرُهُم بضرورة مواجهة الظلم والظالمين وعاقبة السكوت عن ذلك، وبخطورة مواقفهم تلك تجاهه وتجاه الإسْــلَام، وما أحدثه يزيدُ في الساحة الإسْــلَامية من فساد وتعطيل للحدود والاستئثار بالفيء، لكن ذلك الواقع المنحرف كان قد عمل عملَه في نفوسهم فقَسَت وخبثت، فأبَوا إلا أن يكونوا في صف الباطل ضد الحق وأهله.
التقت الفئتان، فكانت تلك الملحمةُ التاريخيةُ التي سطّر فيها الإمامُ الحسين وأصحابُه وأهلُ بيته بدمائهم الطاهرة أروعَ البطولات، تلك الملحمةُ التي أصبحت رمزاً تاريخياً لانتصارِ الدم على السيف، وانتصاراً للمظلوم على الظالم، وانتصاراً للحق على الباطل مهما بلغت عُدَّتُه وعَتادُه، استشهد الإمامُ الحسين وأصحابُه وأهلُ بيته -عَلَيْهِمُ السَّــلَامُ-، لكن يبقى الإمامُ الحسين قلبَ الحق النابض في وجدان كُـلّ أحرار العالم في كُـلّ زمان ومكان.
وما أشبهَ عصرَنا الحاضر ونحن نعيشُ هذا العدوانَ الظالمَ على بلدنا الحبيب والمظلومية الكبرى، بما حدث على أرض كربلاء بكل ما حملته واقعة الطفِّ من أحداث وتفاصيل، والنصرُ بإذن الله سيكونُ لعباده المستضعَفين الذين جسّدوا شخصيةَ الإمام الحسين في توجُّـهاتهم وتحَرُّكاتهم، وحملوا رايةَ الإمامِ الحسينِ وروحيةَ الإمامِ الحسينِ التي لا تنكسِرُ مهما علا الباطلُ وتجبَّرَ.