ويبقى الحسين (7)… استراتيجيةُ تجنيد الفكر قبل الاشتباك في المعركة العسكرية
أم مصطفى محمد
في الوقت الذي يلمَسُ فيه الإنسانُ المؤمنُ بالله تعالى والذي عقَدَ النيةَ والعزمَ على الجهاد في سبيله خطورةَ الحرب وثقلَها يلمسُ في الآن نفسِه آثارَ العبادة والتهجُّد على بناء الروح وتقوية القلب ليصبح كزُبَرِ الحديد، فهذه الآثار لم تكن محصورة على المؤمن بالله تعالى فقط بل سرى أثرُها في الذين لم يؤمنوا بالله تعالى وتجهّزوا لقتال أوليائه، فلقد أثّر تهجد الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- على الأعداء تأثيرا بالغا من عدة جوانبَ من أهمها الأثر الرسالي، فقد كشف هذا الوقوف بين يدى الله ومناجاته أن لهؤلاء القوم قضيةً ربانية مرتبطة بالرسالات السماوية وأنهم ليسوا طلابَ سلطة ولا دعاة مُلك أَو رئاسة، وإنما هم امتدادٌ لرسول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّمَ- ورسالتِه، فهذه الفِعَالُ هي فِعَالُ الأنبياء والمرسلين وعبادِ الله الصالحين، كما أن للمناجاة في الجانب النفسي تأثيراً معاكساً على الأعداء، بمعنى أن كُـلّ ما يدخله الدعاء والمناجاة والعبادة من ارتياح وانبساط نفسي على المؤمن يكون على عكسه حالُ الظالم وبخَاصَّةٍ حينما يرى أمامَ عينَيه وقوفَ المظلوم ومناجاته لله رب العالمين، والسببُ في ذلك أن الظالم يتملكه شعورٌ نفسي خاصٌّ يتكوّنُ من مجموعة إدراكات ذهنية مختلفة كإدراكه بأنه متلبسٌ بالظلم وأنه من صنفِ أهل الشر وأن عاقبتَه سيئة وأنه أداة تُستهلك بيد غيره وأنه عارٌ على أبنائه وعشيرته وأنه موضعُ لعنة الله على مر الأجيال وغيرها من الإدراكات التي تدور في الذهن فتستشعرها النفسُ بمرارة وحسرة فتكونُ هذه الأحاسيسُ أشدَّ ألماً على النفس من آلام الجراح ولذلك نجد الكثير من الظالمين، حينما يعيش هذه الحالة النفسية تأخذه العِــزَّة بالإثم كما دل عليه قوله تعالى (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ، فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ، وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) فلا يجد من الناحية النفسية غير المضي بهذا الظلم إلا في حالة واحدة وهي تغليب العقل على النفس فيأخذ من هذه المشاهد التي يراها من أهل الخير والصالحين فيشد النفس إلى اللحاق بهم بعد التوبة والمغفرة.
إن المتتبع للتاريخ يجد أنه لم تشهد معركةٌ من المعارك في الإسْــلَام عدداً من الخطب العقدية والفكرية قبل اشتباك الجند كما شهدته معركة كربلاء، فلقد كانت المعركة الوحيدة التي سلكت استراتيجيةَ تجنيد الفكر قبل الاشتباك في المعركة العسكرية، مما يؤكّـدُ أن تلك الحربَ كانت عقائديةً؛ ولذا بدأت أولاً ببيان حقيقة هذه العقيدة وفسادها من خلال مخاطبة العقل فإن لم تفلح هذه المخاطبة لزم الدخولُ في المعركة العسكرية لتكون عسكرة الناس وقتالهم وسيلة للحرب الأَسَاس أية حرب التوحيد والوثنية وأداة من أدوات هذه الحرب؛ ولذلك لم يشهدِ التاريخُ الإسْــلَامي هذا الكمَّ من الخطاب العقلي قبل خطاب الأيدي والأسنة والرماح إلا في معارك رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم أَو معارك الإمام علي بن أبي طالب -عَلَيْهِ السَّــلَامُ-، ولعل الخطبة الأولى والخطبة الثانية التي ألقاها الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- بأهلِ الكوفة بعد أن أخذ مصحفاً ونشره على رأسه كانت لإظهار فسادِ عقيدة الخصم؛ كي يأمن الناس من الوقوع في هذه العقيدة فيخسروا الدنيا والآخرة؛ لذا نجدُ أن الإمامَ الحسينَ -عَلَيْهِ السَّــلَامُ- قد خاطبهم عن تكوينِ العوامل الأنثروبولوجيا الاجتماعية الثقافية لمجتمع الكوفة وَبيّن لهم أن هذه المعطيات الفكرية والعوامل الاجتماعية لو طُبّقت على أي مجتمع آخر لأثمرت لنا مجتمعا مطابقا لمجتمع الكوفة الفكري والعقدي ذلك المجتمع الذي يندفعُ إلى قتل الآخر ولو بمكانة الحسين بن علي بن أبي طالب -عَلَيْهِمُ السَّــلَامُ-.