عن وحدة اليمن وفساد السلطة المطلقة!!
بقلم: عبدالعزيز البغدادي
نشأ المؤتمرُ الشعبي العام أو أنشئ في 24 أغسطس عام 1982 كتنظيم أو مكون سياسي مولود من رحم النظام السياسي في الجمهورية العربية الـيَـمَـنية وفي ظل حضْر شامل للنشاط السياسي والحزبي، ولهذا كان إنشاؤه مصحوباً بحملة دعائية كبيرة تضفي عليه كما كان يقال صفة المظلة التي تحتوي كُلّ الأطياف السياسية، في إشارة إلى نية الاحتواء لأي حلم بوجود تعددية حزبية أو سياسية حقيقية معترف بها رسمياً كإطار عام تمارس من خلاله الحياة الحزبية والسياسية، ولذلك فقد كان إطار المؤتمر وآلية عمله أشبه بالأنظمة الشمولية، أي المحكومة بأيديولوجية يدّعي تمثيلها حزب واحد أو تكتل يعمل على تكوينه مجموعة قيادات أشبه بمجلس الكهنة، وكان الميثاق الوطني (الأزرق) هو إطاره الفكري العام (العقيدة أو الأيديولوجية الهلامية للمؤتمر الأشبه بكتاب القذافي (الكتاب الأخضر).
ومن الأمثلة الواضحة للأنظمة الشمولية نظام الاتحاد السوفياتي الذي حكمه الحزب الشيوعي السوفيتي وكذلك نظام جمهورية الصين الشعبية والمحكوم بنظام الحزب الشيوعي الصيني وغيرهما من الأحزاب والتكوينات الشمولية التي تعني سيطرة الحزب الواحد الذي يسير الحُكم وفق أيديولوجيا جامدة نسبياً التي تتميز آلية عملها بعدم الشفافية وكثرة اللجوء إلى تفويض المسؤول الأول مهام هي من صلاحية الهيئات والمنظمات.
لقد كانت نشأة المؤتمر كما أشرنا في ظل حملة إعلامية صارخة مضمونها أنه هو النموذج الأفضل للممارسة الديمقراطية للسلطة ليس في الـيَـمَـن فقط بل وفي المنطقة وهو في الواقع نموذج من نماذج الاحتيال على الإرادة الشعبية حيث صاحبه دورات انتخابية شكلية في المؤسسة التشريعية وفي المجالس المحلية بل وتم عن طريق الانتخابات الشكلية ممارسة أشكال التزوير للانتخابات واستيلاء السلطة على جميع منظمات المجتمع المدني بفرض شخصيات سلطوية على رأسها وفي أحسن الأحوال شخصيات تُحسب ضمن الأحزاب المعارضة غير المسموح بإنشائها رسمياً ولكنها شخصيات مرضي عنها من قبل رأس السلطة الذي تحول إلى رمز للدولة التي فقدت سيادتها وهيبتها نتيجة حجم الفساد والاستبداد الذي ولّدته سلطاته المطلقة وإهداره للمال العام وجعل مراكز السلطة محصورة على مقربيه وأصهاره ومحسوبيه!!!.
وحين قامت وحدة ١٩٩٠ السياسية الاندماجية كانت العناصر المحسوبة على المؤتمر الشعبي العام أو بالأصح على السلطة الحاكمة في الشمال (الجمهورية العربية الـيَـمَـنية) قد استحوذت على جميع مفاصل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وكان ذلك تمهيداً سلبياً للتقاسم المعلن بموجب اتفاقية الوحدة بين النظام الحاكم في الشمال ج. ع. ي الذي يمثله حسب الاتفاقات المعلنة المؤتمر الشعبي العام وبين النظام الحاكم في الجنوب (جمهورية الـيَـمَـن الديمقراطية الشعبية) الذي يمثله الحزب الاشتراكي الـيَـمَـني الذي سرعان ما تبين للكثير من منتسبيه وقياداته عقب توقيع الوحدة مباشرة بأنه قد وقع في مطب لم يكن مدركاً له، بل إن بعض قياداته التي أغريت ببعض الامتيازات لم تكن تصغي لكل التحذيرات والملاحظات التي كانت تطرحها عناصر وطنية من الحزب الاشتراكي ومن تيارات وطنية اُخْــرَى!!.
لذلك ما إن تم التوقيع على الاتفاقية بيد حتى بدأت التعليمات السرية للقواعد المحسوبة على المؤتمر الموجهة باليد الاُخْــرَى تظهر ملامحها من خلال تجاوز كُلّ اتفاقيات الوحدة والضرب بأغلبها عرض الحائط بل وجعل كثير من كوادر الدولة الجنوبية والحزب الاشتراكي هدفاً للتصفيات الجسدية والإقصاء المتعمد بشتى الوسائل ومن كُلّ مفاصل الدولة والوظيفة العامة!!.
وفي ١٩٩٣ تفاقمت الأزمة بين شريكي الوحدة واجهتي سلطة الشمال والجنوب المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي إلى أن وصل الأمر إلى اعتكاف الأخ علي سالم البيض نائب رئيس الجمهورية الأمين العام للحزب الاشتراكي في عدن وبدا واضحاً أن علي عبدالله صالح كان مدفوعاً استخباراتياً (أمريكياً وسعودياً) لتوتير الوضع والانقلاب على اتفاقية الوحدة وعلى كُلّ المواثيق والعهود والوعود المكتوبة وغير المكتوبة العامة والخاصة، وفي المقابل وبحكم شخصية البيض المتسمة باختلاط العقل بالعاطفة لديه اختلاط سلبي أحياناً كان رد فعله الأخذ بخيار التوجه نحو الانفصال لتصحيح خيار الوحدة الاندماجية حسب قوله أي أن الوحدة والانفصال صارا محكومين بالمزاج الشخصي وليسا خيارين وطنيين يحكمهما المسؤولية الوطنية!!!.
وكأنه كان يسير بخطًى متسارعة للقضاء على وحدة 1990 السلمية واستبدالها في حرب صيف 1994بالوحدة بالدم ثم برفع شعار (الوحدة أو الموت) الذي تبناه إلى جانب صالح بعض مرتزقته من الجنوب ومنهم عبدربه منصور هادي ومن إليه ممن كان يسميهم هادي (أنصار الشرعية) أي شرعية علي صالح القاتلة، وقد لعبت اللجنة العسكرية المكونة من عسكريين من أمريكا والسعودية، الأردن وفرنسا التي قيل إن مهمتها إزالة التوتر لعبت تلك اللجنة دوراً ملموساً في زيادة التوتر للوصول لتفجير الوضع عسكرياً، فرغم ذهاب الأطراف السياسية إلى عمّان الأردن والتوقيع على وثيقة (العهد والاتفاق) التي تضمنت بعض النصوص التي أراد واضعوها تلافي الثغرات الكبيرة المحددة لصلاحيات رئيس الدولة بشكل يمنع تغوله وعدم خضوعه للمساءلة عند تجاوزها!.
وإلى جانب ما تضمنته الاتفاقيات من ثغرات مؤثرة سلباً في قدرة الرئيس على الاستحواذ على الجزء الأكبر من صلاحيات اتخاذ القرار فإن البنية الحزبية والسياسية كانت هشة ومبنية على ترسيخ الاستبداد في الشمال وكذلك في الجنوب فإن ذلك كله قد ساعد على تركيز أوسع الصلاحيات في يد الرئيس الرمز صاحب ومؤسس المؤتمر الشعبي العام وفي يد الأمين العام للحزب الاشتراكي الـيَـمَـني الذي أقدم على الوحدة الاندماجية بناءً على تفويض من اللجنة المركزية والمكتب السياسي ومعتمد على آلية التفويض المبجّلة التي تريح بعض هيئات الأحزاب عن التفكير وتجعل شخص الأمين العام مفوضاً بالتفكير نيابة عنهم والعلم عند الله من أين كان مصدر القرار لدى ممثل الحزبين في النهاية!!!.
وهذا التساؤل المشروع منبعُه مآلات الوحدة وسيناريوهات التعامل مع مشروع بناء دولتها!.
إذاً هل المؤتمر الشعبي العام وكذلك الحزب الاشتراكي الـيَـمَـني بعد كُلّ ما حدث للـيَـمَـن في ظل حكمهما أو باسم حكمهما مكونين سياسيين يمكن الوثوق بأنهما قادران على اتخاذ موقف وطني واضح مما يجر بعيداً عن الارتهان للقيادة الفردية أو بالأصح لآلية الرمز الاستبدادي المسيطر عليها،
بمعنى آخر هل هذان الحزبان أو الكيانان السياسيان مؤهلان ليكونا شريكين أساسيين في مرحلة شراكة وطنية التي يفترض أنها تؤسس للانتقال من المرحلة الانتقالية التوافقية إلى مرحلة تسيير الدولة وفق أسس التنافس السياسي والحزبي الشريف المعبر عن الإرادة الوطنية الحرة؟.
هل لديهما هذا الاستعداد؟.
إنني كثيراً ما أواجه بعض المنتسبين إلى المؤتمر الشعبي العام أو من الاشتراكي أو من كثير من الأحزاب ينزعجون من نقد قياداتهم، فأشعر بغصة بل وبألم شديد أحياناً؛ لأنني أجد أن الفهم المسيطر على الأحزاب لم يتجاوز بعد المرحلة البدائية في العمل الحزبي والسياسي الذي يجعل من القيادة أشبه بالرمز المقدس غير القابل للنقد والذي تتركز لديه سلطات واسعة دون أن يخضع لأية محاسبة أو مساءلة، وهذا نقيض للهدف الذي يفترض أن الأحزاب والمكونات والجماعات والمنظمات التي وُجدت من أجله، بل هو نقيض للمفاهيم الدينية المستنيرة التي تعد الاجتهاد جزءً من الدين القيم الذي تحترم العقل ويجعل له مكانة مهمة ففي الإسلام، وردت الكثير من الآيات التي تؤكد أهمية مخاطبة عقل الإنسان لتطبيق منهج القرآن والتعامل مع الحياة!!.
ومن مظاهر النهج المستبد في حياة بعض الأحزاب إصرارُ بعض المنتمين إليها على رفض أي نقد يوجه إلى الرئيس أو الأمين العام والتعامل مع هذا النقد بفجاجة ناتجة عن تأثير ثقافة الاستبداد وهؤلاء يرون أن المطالبة بمحاسبة أو معاقبة رئيس أو قيادة حزبية معينة مساسٌ بالحزب أو التنظيم وأحياناً يواجه المطالب بأنه بذلك يمس الوحدة الوطنية!!!.
يا سبحان الله هؤلاء الفاسدون صاروا هم خلاصة الوطن أو رموزه بل قُل هم الوطن كله!!.
نعم لقد رأينا على مدى كثير من محطات محاولات إحداث التحولات التأريخية كيف أن عُصبة من هذه المكونات السياسية كانت حائلاً دون تحقيق الحلم في هذه التحولات باتجاه التأسيس للمشروع الوطني وكيف بقي القرار مستلباً لهذه العصابات أو مراكز القوى، وقد أعطيت هذه المسميات السياسية والحزبية أكبر من حجمها في الحياة السياسية ووضع مصير الوطن بأكمله رهنَ ما تقرره تلك القيادات لوقوع المجتمع تحت تأثير بعض المصطلحات المهيمنة مثل (القوى والأحزاب والمكونات السياسية الحية في المجتمع ما يوحي بأنها صاحبة الحق في تقرير مصير الدولة والمجتمع دون وجه حق!!.
في أي مجتمع سوي نجد أن أي حزب في موقع السلطة مثل المؤتمر أو الاشتراكي باعتبارهما الحزبين الرئيسيين بين الأحزاب التي حكمت الـيَـمَـن أو حُكمت الـيَـمَـن باسمهما سواء بالانفراد أو بالشراكة مع أحزاب اُخْــرَى نقول في أي مجتمع سوي كان الأجدر بقواعدهما بعد ثورة ما أسمي الربيع العربي في 2011 مراجعة مواقف الحزبين وآلية عملهما أو تسييرهما ومدى تأثيرهما في الحياة السياسية والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت خلال حكمهما.
لقد رأينا كيف تم حل الحزب الوطني في مصر وحزب التجمع الدستوري في تونس بداية ثورة 2011 بتهمة إفساد الحياة السياسية مع العلم بأن ما ارتكب في الـيَـمَـن من فساد وأخطاء وبالذات باسم المؤتمر الشعبي العام هو أضعاف أضعاف ما جرى في مصر وتونس وغيرهما بل لا مجال للمقارنة!!.
والسؤالُ الذي يطرح نفسه وبإلحاح في ظل ما يتعرض له الـيَـمَـن من عدوان همجي لا مثيل له هو هل بإمكان المجتمع الذي يدّعي البعض أنهم يمثّلون نخبة المجتمع المدني أن يقفوا وقفةً وطنية شجاعة بعيداً عن الاستمرار في شخصنة الحياة السياسية التي بواسطتها أعيقت الـيَـمَـن على كُلّ المستويات هل بإمكان هؤلاء اليوم الوقوف لوضع حد لكل الممارسات الفردية الأنانية التي كان لها الدور الأبرز في مساعدة العدوان السعو صهيوني الأمريكي على ارتكاب ما ارتكبه ولا يزال يرتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية وإخضاع كُلّ من تواطأ مع هذا العدوان الوقح سراً أوعلَناً أو قَبِلَ أو برر للعدوان أو هيأ له بكل الوسائل وعلى كُلّ المستويات وفي كُلّ المراحل، أي سواء بإضعاف القوة الدفاعية خلال حكمه أو التواطؤ السياسي أو إفساد المؤسسات أو أو أو.. .إلى آخره؟؟!!، قد يطرح بعض الفاسدين الحالمين باستثمار دماء شهداء 21 سبتمبر وما بعدها بأن الحديث عن تصلب المواقف سيفتح جبهات عديدة نحن في غنى عنها، وهنا أقول إن السؤال واضح ولستُ مع فتح جبهات عديدة، أنا مع أن تقوم الأحزاب والقوى السياسية بواجبها السياسي والوطني وأن تحد من النفوذ غير الطبيعي للأفراد على حساب المجتمع، ولا أدعو هنا بالضرورة إلى محاكمات بل إلى وضع حد لكل هذا الصلف الذي يمارسه الأفراد ذوو النزعات الفردية المريضة ومنع استمرار التجرُّؤ على الله والناس ورغبة البعض في تصدُّر المشهد السياسي على أنهم رموز أو زعماء رغم الإعلان عن قيام ثورة بحّت خلالها أصوات الثوار ومعهم عدد غير قليل من الـيَـمَـنيين الذين عانوا من الفساد وإرهاب الدولة على مدى أكثر من أربعة وثلاثين عاماً خرجوا منادين برحيل رموز الفساد والإرهاب، ويرى أغلب أبناء الشعب أن المكان الطبيعي لهؤلاء إنما هو قفص الاتهام إذا كنا فعلاً بصدد ثورة مؤكدة، ولا بد من وجود درجة من الإحساس بالمسؤولية إذا كنا فعلاً نريد فتح صفحة جديدة تقوم على مبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية، فهل نحن مهيؤون فعلاً للوصول لهذه الدرجة من الإحساس بالمسؤولية؟!!.