المصالحة الوطنيّة.. تسامُحٌ وتضحيةٌ من أجل الوطن
مطهر يحيى شرف الدين
التسامُحُ والحِلمُ أعلى مراتب القوة، وفي ذلك شعورٌ بالكمال الإنساني، والتسامحُ هو أم الفضائل وزينة الأخلاق والقيم، أما حبُّ الانتقام فهو أعلى درجاتِ الهوان والضعف والشعور بالنقص والعُقد النفسية، وَإذَا كانت الرياحُ العاتية تمحو الجِراحَ التي خُطّت في الرمال، فإن قلوبَ البشر أولى من تلك الرياح في أن تصفحَ وتسامِحَ وتمحوَ جراحاتٍ لا تُجبَرُ إلّا بنبذِ وتركِ مَن يغذي تلك الجِراح ويُشعل الأزمات ويفتعل الحروب ويثير الفتن، ولو تم مواجهةُ العِداء بالعِداء والغلّ بالغلّ فمتى ستنتهي الأحقادُ والضغائنُ؟، ومتى يخلُص المرءُ إلى التعايش وَالسّلام وإلى انتزاع موقفٍ فضيل، فيه روعةُ الانتصار وحُسن المبادرة والدعوة إلى توحيد الصف اليمني تحت مظلة الحوار الوطني المستقل البعيد عن الإملاءات الخارجية والتدخلات الأجنبية المغرضة.
إذن فالتسامحُ والتصالحُ هما علاجُ الكراهية وهما دواءُ الضغائن، وهما الطريقُ الذي ينتهي إليه العدوان والظلم والاستبداد، والتسامحُ والعفوُ هو التربية المحمدية التي قرأناها حِلماً وعبرةً ودروساً في فتح مكة عندما أسلم الطلقاءُ كرهاً، وقد عبّر عن ذلك الموقف نبيُّ هذه الأمة -صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله- بما يعكسُ مبدأ التسامح ورحابة الصدر وسلامة حُسن النيّة؛ لإثبات سماحةِ الدين الإسلامي وغض الطرف عمَّن ضلَّ سواء السبيل ثم اهتدى وغلّب مصلحة الوطن وَالأمّة الإسلامية على مصالحِ الغرب ومصالحه الشخصية والمادية.
وقد تحدث صلواتُ الله عليه وعلى آله عن ذلك الموقف وهو في موقع القوة والعزة والانتصار، فالأقوياءُ والأحرار لا يخشَون التسامحَ بل يثقون بقوةِ الحُجة وعلوِّ النفس الأبية، ومن يثق بعدالة القضية لن يخشى عفواً أَو تصالحاً، ومن يصفح ويسامح فإنك تجدُ لديه الأُفقَ الأوسعَ والنظرة الأعمق والبُعد الأسمى في تحقيق أهداف التسامح والتصالح؛ ولذلك فالمنادي للمحبة والتسامح والساعي للمصالحة بين الناس لا تراهُ الأُعينُ إلّا كريماً ولا تسمعه القلوبُ إلا عظيماً في خُلُقِهِ وسيرته وتعامله.
المصالحةُ تُغضب العدوّ الحقيقي للإنسانية، وتُفشل المشاريعَ التدميرية التي يسعى من خلالها العدوّ إلى تمزيق اليمن وبثِّ الفُرقة والكراهية في أوساط المجتمع الداخلي، وتجعلهُ يخشى عواقبَ تحمُّل المسؤولية المدنية والجنائية جرّاء ما ارتكبه من جرائم وانتهاكات بحق الشعوب، فمن مصلحةِ العدوّ الحقيقي أن يجعلَ أبناءَ المجتمع الواحد في مواجهاتٍ دائمةٍ وصراعاتٍ بينيةٍ طابُعها مناطقي وطائفي وعنصري؛ لكي يتسنى له العبث بمقدرات البلد المعتدَى عليه ونهب ثرواته وانتهاك سيادته؛ ولذلك يجرُّنا الحديثُ عن التصالح والتسامح إلى مبادرة المجلس السياسي الأعلى بشأن تشكيل فريق المصالحة الوطنية والحل السياسي الذي يسعى إلى جمعِ كلمة اليمنيين في مواجهة الغزاة والمحتلين الطامعين في ثروات وخيرات الأرض اليمنية، والساعين إلى إذلال أبناء اليمن الواحد، وجعلهم تابعين لدولٍ أجنبية غيرَ مستقلين في قرارهم السياسي والسيادي، فصدورُ قرار تشكيل فريق المصالحة من قبل القيادة السياسية كان نابعاً من الاستشعار بالمسؤولية والحرص على وحدة اليمنيين على أسس السّلام والتعايش وشراكة جميع الأطياف المجتمعية والكيانات السياسية، في رسم وبناء يمنٍ قويٍّ ومزدهرٍ، فليس هناك من يقفُ أمامَ مشروع المصالحة إلّا الأجنبي الذي يجني أموالاً طائلةً من بيع السلاح، ومن ابتزازهِ لدول الخليج؛ بحُجة حمايتها من أعداء وهميين؛ ولذلك ليس هناك من يقف أمام السّلام والمصالحة إلّا من لديه مصلحةٌ في استمرار الاقتتال ومواصلة الحصار وخنق الشعب اليمني.
مثَّلت تلك التوجّـهات السياسية الحكيمة رديفاً آخرَ لقرار العفو العام الذي أصدره الرئيس الشهيد صالح الصمّاد -رضوانُ الله عليه- عن المخدوعين الذين انخدعوا وغُرر بهم وكُذِبَ عليهم بأنَّ التحالفَ العسكريَّ قد تدخل من أجل سواد عيون الشرعية المزعومة، واليومَ أثبت تحالفُ العدوان السعودي الأمريكي أن تلك الشرعيةَ منعدمةٌ ولا أصلَ لها، وقد أسقطها التحالفُ في طرفةِ عين بل أصبحت تلك الشرعية خصماً للتحالف وأضحى ينعتُها بالإرهاب.
فهل من مدَّكر أيها المخدوعون؟، وهل من معتبِر يا من عملتم سوءاً ومنكراً بجهالة؟، وهل من مستجيب لليد التي طالما امتدت للسّلام من أجل السَّلام وليس من أجل الاستسلام، وسعت إلى كلمةٍ سواء بين الناس؛ من أجل عزة وكرامة الأمةِ الإسلامية؛ ومن أجل مواجهة أعداء الله ورسوله والمؤمنين، قال تعالى (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ).