حليفُ القرآن (1)… الإمامُ زيد بن علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- واستشفافُه للرؤية المستقبلية
أم مصطفى محمد
في بيتٍ يتفجّرُ بالإيمان الصادق وفي حِجْـــرٍ رضَعَ من أثداء الرسالة تربى الإمامُ زيد بن علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- على يد والدين كريمين كان هو نتاج غرسهما، فقد وُلد الإمامُ زيدٌ بنُ علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- في المدينة المنورة من أبوين طاهرين، فأبوه هو الإمام علي بن الحسين الملقب بزين العابدين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ذاك الإمام الذي ليس في تاريخ الشرق الذي هو مهد النبوات من يضاهيه في ورعه وتقواه وشدة إنابته إلى الله تعالى.. اللهم إلا آباؤه الذين أضاءوا الحياة الفكرية بنور التوحيد وواقع الإيمان، فلقد حاكت سيرةُ هذا الإمام العظيم سيرةَ الأنبياء والمرسلين وشابههم بجميع ذاتياتهم واتّجاهاتهم، فهو كالمسيح عيسى بن مريم في زهده وإنابته إلى الله وكالنبي أيوب في بلواه وصبره وكالرسول محمد صلى اللهُ عليه وآله وسلم في صدق عزيمته وسموِّ أخلاقه، فنزعاته الخيّرة وأرصدتُه الروحية لا حدَّ لها وحسبُه أنه وحدَه في تاريخ هذه الدنيا قد عُرف بزين العابدين ولم يمنح لأحد هذا اللقب سواه، وأما عن أُمِّ الإمام زيد فقد كانت سيدةً كريمةً من سيدات نساء المسلمين.. سيدةً امتازت بالعفة والشرف والطهارة فشرفها الله تعالى لأَنْ تكونَ هي الوعاءَ الذي حمل ذلك النور العظيم.
لقد عاش الإمامُ زيدٌ بنُ علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وهو يرى مسحةَ حزن تمر على جبين والده بين الحين والآخر كلما تذكر الأحداث الدامية التي جرت في كربلاء فلا زالت كربلاء تنبض بدماء الشهداء الذين سقطوا صرعى على أرضها ولا زالت الصرخات التي أطلقها أبو عبدالله الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ترن في أذن كُـلّ ثائر والتي كان يقول فيها (هل من ناصر؟ هل من معين؟ أليس من ذاب يذب عن حرم رسول الله؟ أليس من موحد يخاف الله فينا؟) ولعل ذلك النداء قد وجد مجيب له بعد تلك الحادثة الأليمة فتجسد ذلك النداء في ثورة قام بها أحرار أطلقوا على أنفسهم لقب التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يؤازره في ذلك جمع من المسلمين الموالين لـأهل البيت -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فقاتلوا الجيش الأموي في معركة عين الوردة تلك المعركة التي استمرت أربعة أيام استشهد خلالها الكثير من التوابين وحُوصر الباقون من قبل العدوّ وبالرغم أنهم انهزموا أمام الجيش الأموي حسب المعايير العسكرية إلا أنّهم تمكّنوا– ولأوّل مرّة- من خلق كيان متجانس من الموالين لآل البيت -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- كان له الأثر في ترسيخ تاريخ التشيع انطلاقاً من الشعار الذي رفعوه المتفاعل مع روح الثورة الحسينية وقيم الشهادة الحسينية فاستشرت بذلك روح الثورة والجهاد في الأُمَّــة كون دماء التوابين قد تركت أثرها في نفوس فئة من المؤمنين كان يوجههم الإمام زين العابدين فقاموا بثورة كان شعارها (يا لثارات الحسين) بقيادة المختار الثقفي الذي تربي تحت ظل مبادئ أهل البيت الأطهار -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-.. ولعل الصراعات الدائرة بين الحق والباطل كانت هي الأجواء التي كان يعيشها الإمام زيد بن علي -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فقد كانت تلك الأجواء مليئة بالحذر والثورة والإيمان فكان سلام الله عليه يأخذ عصارة تجارب والده الإمام زين العابدين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- ويفطمها ثم يحاول أن يستشف منها الرؤية المستقبلية.
لقد تربّى الإمامُ زيد بن علي على يد أبيه الإمام زين العابدين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- حيث عاش مع أبيه السجاد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- خمسة عشر عَاماً أَو يزيد فكان الإمام زين العابدين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَثيراً ما يصور إليه الموت في عدة مناسبات كإعداد نفسي للإمام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- من أجل الشهادة في سبيل الله، فالموتُ عند آل البيت لا يعني سوى لقاء الله، والشهادة تعني الجنة، فكانت تلك معادلة لا تحتاج إلى برهان؛ لأَنَّ اللهَ يقولُ في محكم كتابه العزيز (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)؛ ولذلك نجد أن الإمام زين العابدين -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لم يترك هذا الجانب لأهل بيته غامضاً، بل كان يقول لهم (ما مِنَّا إلا مقتولٌ أَو مسموم)، فإذا ليس من المستغرب أن يسمع الإمام زيد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وهو في صباه أنباء شهادته ومقتله.. فذات مرة مر الإمام زيد بن علي على الإمام الباقر -عَلَيْهِ السَّلَامُ- وهو جالس مع جمع من الناس فلما رآه الإمام الباقر -عَلَيْهِ السَّلَامُ- قال (هذا سيد أهل بيتي والآخذ بثأرهم) كناية عن أنه سيقاتل أعداء الله بغية الأخذ بثأر الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّلَامُ-؛ ولذلك حرص الإمام الباقر -عَلَيْهِ السَّلَامُ- على تولى أمر تربية الإمام زيد بن علي بنفسه، فبعد استشهاد الإمام السجاد -عَلَيْهِ السَّلَامُ- تكفل أخوه الأكبر الإمام الباقر -عَلَيْهِ السَّلَامُ- بكفالته، فكان هو ربيبَ الإمام الباقر -عَلَيْهِ السَّلَامُ-، حيث عاش في رحابِ عطفه وحنانه بعد استشهاد أبيه واغترف العلم والتقوى من نبعه الفياض، ولقد أشار إلى ذلك السيد القائد -يحفظه الله- في ذكرى استشهاد الإمام زيد بن علي، وهنا كان لا بد لنا أن ننبهَ إلى أن هناك خطأً كبيراً يقترفه البعض في حق الإمام زيد بن علي، حيث يقولون إنه تلقى علمَه وتعلّم الفقهَ علي يد أبي حنيفة وواصل بن عطاء ولا يدري هؤلاء أنهم يقدحون في الإمام زيد من حيث لا يدرون، والحقيقة أن أبا حنيفة النعمان بن بشير هو مَن تتلمذ على يد الإمام زيد، وقال عن ذلك: لولا السنتان لهلك النعمان.