حليفُ القرآن (3) … الحقبةُ التاريخية التي عاش فيها الإمامُ زيد -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-
أم مصطفى محمد
لقد استولى معاويةُ بنُ أبي سُفْيَـانَ على السلطة عام 40 للهجرة بعد استشهاد أمير المؤمنين الإمام علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- وبعد اتّفاقية الصلح التي أبرمها مع الإمام الحسن بن علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ-؛ لأَسباب فُرِضَت على الإمام موقف الصلح.
ومنذ ذلك التاريخ دخل العالَمُ الإسلامي ظرفاً تاريخيًّا شاذًّا، حيثُ حاولت الأسرةُ الأموية أن تمسخ هُويته الإسلامية من خلال انتهاجها أسلوباً منحرفاً في عملية نقل السلطة وفي التعامل مع الجماهير الإسلامية، فمنذ بداية الدعوة الإسلامية مارست الأسرة الأموية موقفَ المناوئ للرسالة، حيثُ شنت حملات التشكيك والطعن بأفكار الرسالة وأثارت الفتن في وجه الدعوة وقادت المعارك ضد المسلمين، ولم يُسْلِمْ أقطاب الأمويين إلا بعد فتح مكة، فهو إسلامٌ من لا يجد مخرجاً غيرَ التجاوب مع الدين الجديد الذي دخل فيه الناس أفواجاً، فلم يكن إيْمَــانُهم ناشئاً عن قناعة وتسليم لأفكار الرسالة بقدر ما كان مجاراةً للوضع السياسي الذي تمخض عن فتح مكة المكرمة.
كانت الأسرة الأموية هي العدوَّ الأولَ للإسلام حتى فتح مكة عام 8 للهجرة، بمعنى أنها حاربت الرسالة زهاءً عشرين عَاماً، فكانت هذه الفترة كافية؛ لثباتِ الاختيارات وتحديد هُـوِيَّة هذه الأسرة وأشخاصها، فها هو أبو سُفْيَـانَ يُسْلم وفي النفس شيءٌ كما قالها للعباس بن عبدالمطلب، ولعل هذا الشي نجده اليوم في نفوس بعض الناس الذين يدّعون انتماءَهم للمسيرة القُــرْآنية لكنهم في حقيقة الأمر يحاولون اختلاقَ الفرص؛ لسحق هذه المسيرة المباركة:
إما عن طريق تثبيط الهمم -كما يحدث اليوم- من خلال المجنّدين المدنيين في منظمة الرياح الباردة والذين يسعَون إلى إثارة الفتن من أجل تمكين العدوّ منا داخلياً بعد أن عجز عن مواجهتنا في ميادين القتال.
وإما عن طريق سياسية التجويع التي يريد أن يمارسها علينا هذا العدوان من خلال بعض التجار الذين انسلخوا عن دينهم وإنسانيتهم ومبادئهم فأي فرق بين هؤلاء وبين من حارب الرسالة المحمدية الأصيلة.
لقد أسلم معاوية كما أسلم أبوه تحت ضغط السيف والفتح المبين، فأبو سُفْيَـانَ قد أسلم؛ خوفاً على حياته، حيثُ لم يكن إيْمَــانه قائماً على الاقتناع الحر بما جاءت به الرسالة الإلهية، أما معاويةُ فبالإضافة إلى عدم إيْمَــانه بالرسالة المحمدية نجدُه قد وظّف هُـوِيَّته الإسلامية المزيَّفة للوصول إلى السلطة، ليس ذلك فحسب، بل إنه فرض لوناً من الفكر الجاهلي عمل على دَسِّه بين الأفكار الرسالية؛ ولكي يتمكن من تحقيق ذلك نجده قد سعى للقضاء على رموز وقيادات الفكر الإسلامي الأصيل كأمثال محمد بن أبي بكر وعمار بن ياسر وحجر بن عدي وغيرهم من قيادات ورجالات الإسلام.
حرص معاوية على أن تظل الشخصية الأموية وسلوكها الجاهلي بعيدة عن تأثيرات الرسالة المحمدية الأصيلة لذا نجد أن الشخصية الأموية قد اكتست قشرة إسلامية تنطوي تحتها العقلية الأموية فبنو أمية قد تميزوا في الجاهلية وصدر الإسلام بأخلاق عامة يوشك أن تسمى لعمومها بينهم أخلاقا أموية وهي تقابل ما نسميه في عصرنا بالأخلاق الدنيوية أَو النفعية وَالتي يُراد بها بيان أن المرء يُؤثر لنفسه ولذويه ولا يُؤثر عليها وعليهم في مواطن الإيثار، وَلعلَّ هذه الأخلاقية التي وُلدت المواقف العدائية من الدين ظلت مشهودة في مواقف الشخصيات الأموية التي توالت على الحكم فإذا كان دهاءُ معاوية دفعه إلى لف شخصيته الجاهلية بغطاء من الشعارات الإسلامية فإن الحكام الآخرين لم يجدوا حرجا في خلع العباءة الإسلامية فهذا يزيد يتمثل علنا بشعره القائل:
لعبت هاشم بالملك فلا خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل
وها هو الوليدُ بن يزيد بن عبدالملك يفتح المصحف فيرى الآية (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) فانشد شعره المشهور وهو يرمي المصحف بالسهام:
تهدّدني بجبار عنيد فها أنا ذاك جبار عنيدُ
إذا ما جئتَ ربَّك يومَ حشرٍ فقل يا رَبُّ مزّقني الوليدُ
لقد حرص الأمويون على خلق التيارات الفكرية التي اتصلت بالفكر الجاهلي وذلك من أجل بث السموم في عقول الناس، بالإضافة إلى أنهم عملوا على خلق المذاهب الفكرية والسياسية التي ترسخ دعائم الحكم الأموي، فنشط هذا البيت الشيطاني في حجب الأحاديث والروايات التي تدين تصرفاتهم كما أنه شجع على اختلاق الأحاديث عن الرسول الأعظم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَــهُ وَسَلَّـمَ- فتحدث الرواة بأحاديث غريبة عنه -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَــهُ وَسَلَّـمَ- تتمحور حول فكرة الخضوع للحاكم وحرمة الخروج عليه والتعظيم لرجالات بني أمية، ولم يكتفوا بذلك، بل إننا نجد البيت الأموي قد استخدم سياسة إثارة الروح القبلية بين القبائل وإغراء بعضها ببعض كضرب الشيعة بالخوارج والعرب بالموالي واليمانية بالقيسية، بل كان يفعل ذلك في صميم البيت الأموي من غير السفيانيين، وكذلك استخدم البيت الأموي سياسة الإرهاب والإغراء لتركيع الموالين وجذب المعادين وهذا النمط من الفكر والسلوك والمواقف استمر على امتداد تسعين عام من حكم البيت الأموي ففي ذات مرة دخل الإمام زيد بن علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- على هشام بن عبدالملك وكان عنده رجلٌ يسُبُّ الرسول الأعظم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَــهُ وَسَلَّـمَ- فنهره زيدٌ فقال هشام (مَهْ يا زيدُ لا تؤذِ جليسَنا)، فكانت تلك الأجواء هي الأجواء التي كان يعيشها الإمام زيد بن علي وَالتي كان من الممكن لها لكونها مغلفة بنمط من التعصب والدجل والاحتيال أن تخنق قيم الرسالة لولا ثورة الإمام الحسين -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- وحفيده من بعده زيد بن علي -عَلَيْهِ السَّـلَامُ- واللتان عملتا على إيقاظ الأمة وبثتا في أوصالها الحياة والإرادة والتحدي.