من وحي الخالدين
سعاد الشامي
إنَّ طبيعةَ الحق دائماً تخالفُ طبيعةَ الباطل، والصراعُ بينهما حقيقةٌ جليةٌ لا يمكن إنكارها، والمسؤولية التي كلّف الله بها عبادَه هي مقاومةُ الباطل ونُصرة الحق؛ لذلك لا يجوز في دين الله الخوفُ والهروبُ من هذا الصراع، بل لا بد من البحث عن الحق في أي صراع؛ للتمسك به والبحث عن الباطل لمحاربته.
أهل الحق في كُـلّ زمان ومكان هم من تميزوا بسموِّ الغايات وشريف المقاصد ونُبل الأخلاق وقداسة المبادئ وسلكوا مسالكَ العزة والحرية والكرامة ورفعوا بيرقَ النصر بقوة العمل والجهاد وبمنهجية العطاء والتضحيات.
وفي مشوار الصراع الأزلي بين الحق والباطل، برزت ثورةُ الإمَام الحُسَين بن علي عليهما السلام، فكانت وما زالت نهجَ الحق لكل المؤمنين الأنقياء ودرب التحرّر من كُـلّ طواغيت الأرض ومشعل الحرية لكل الثائرين والذي عجز أهلُ الباطل عن إطفائها أَو إخماد جمرها وكيف لا تكونُ كذلك ودماءُ الحسين الزكية وقودُها وطاقتُها.
ظن الطاغية يزيد أنه انتصر ذلك اليوم وقضى على مسيرة الحق بقتل الحسين بن علي عَلَيْهِمَا السَّــلَام وكل أبنائه ومَن كان معه من أهل البيت ومن أصحابه، ولكن تدابير الله وحكمته كانت تسير عكس نواياهم، فلقد تركوا علياً بن الحسين ذلك اليوم لما رأوه من ضعف فيه واصفرار، ظنًّا منهم أنه في حكم الأموات وليس شفقةً عليه لطفولته فقد قتلوا من كان أصغرَ منه ورمياً بالسهام!
ومن صُلب ذلك الطفل، خرج الإمَـامُ زيدٌ عَلَيْهِ السَّــلَام؛ ليكمل مشوارَ جده ويقومَ بثورة جديدة هي امتدادٌ لثورة كربلاء والمحطة الثانية لانتصار الدم على السيف وبعد مرور “62” عاماً من ثورة جده السبط.
خرج الإمَـامُ زيد عَلَيْهِ السَّــلَام إلى الشام وهو العالِمُ المجاهد المدرِكُ مسؤوليتَه أمام الله في انتهاج درب الحق ومقارعة أهل الباطل ومناهَضة الظالمين وإصلاح حال الأُمَّــة وإحْيَـاء مبادئ الدين الإسلامي الذي كان قد شارف بنو أمية على دفنها وطمس معالمها.
وصل الإمَـام زيد بن علي عَلَيْهِمَا السَّــلَام إلى الشام في عهد الطاغية هشام بن عبدالملك والذي ضاق ذرعاً بتواجد هذا النجم المحمدي؛ لما يعلمُه عنه من غزارة علمه وحلاوة منطقه وكمال بيانه وحُسن أخلاقه، ومثلُ هذا الشخص لن يسكُتَ عن ظلمه وفُجُوره وفسقه وفساده، وكيف لا وشعارُه عَلَيْهِ السَّــلَام “واللهِ ما يدعُني كتابُ الله أن أسكت”؟.
لم يدخل الإمَـامُ زيدٌ على مجلس هشام سوى ثلاث مرات ولكنه في كُـلّ مرة كان يلقنه درساً قاسياً وهو يصرعُه بمنطق الحق والحكمة وبلغة القوة الإيمانية، ففي المرة الأولى قال مقولته المشهورة: (واللهِ ما كره قومٌ قَطُّ حَرَّ السيوفِ إلا ذَلُّوا)، وفي المرة الثانية قال مقولته العظيمة (مَن أحبَّ الحياةَ عاشَ ذَليلاً)، وفي المرة الثالثة صرخ في وجه هشام بعد أن أمر حاشيته بإخراجه قائلاً له: “سأخرج ولن تجدني واللهِ إلا حيثُ تكره”.
وفعلاً خرج الإمَـام زيد عَلَيْهِ السَّــلَام من مجلس هشام إلى حيث يكره هشام وكل الطغاة من أمثاله، خرج الإمَـام زيد إلى الشام في البداية ناصحاً لله وداعياً إلى دينه وهادياً إلى الحق وآمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، إلا أن هشاماً -بتعنته وجبروته- أجبر الإمَـام زيداً عَلَيْهِ السَّــلَام أن يختصرَ المسافةَ ويعدلَ عن الجهاد بالكلمة إلى التحَرّك الجاد وإشعال شرارة الثورة المباركة، فتحَرّك عَلَيْهِ السَّــلَام بمنهجية ثورة جده الحسين وفي نفس الطريق، وهو يحمل نفس المشروع وعلى ذات المبدأ في مواجهة قوى الجبروت والاستكبار.
الإمَـامُ زيد بن علي عَلَيْهِمَا السَّــلَام أطلق ثورته في أصعب الظروف ودولةُ بني أمية في أوج قوتها وعنفوانها وقد سيطرت على العالم الإسلامي في ظل وضع قاتم يسوده الخضوع والخنوع والكل يعيشون حالة الاستسلام المطلق للأمر الواقع، لا يجرؤ أحد أن يعارض أَو يحتج على ما يقوم به بنو أمية في ظل انحراف عن كُـلّ قيم الدين ومبادئه وقواعده.
خرج الإمَـام زيد عَلَيْهِ السَّــلَام في الثاني والعشرين من شهر محرَّم 122هـ، وكان ذلك ليلة الأربعاء وفي صباح ذلك اليوم لم يكن قد وافاه ممن بايعوه سوى مِئتين وثمانية عشرَ رجلاً من عشرات الآلاف الذين كانوا قد بايعوه سابقاً، فأدرك حينَها حالةَ التخاذل في الأُمَّــة وأيقن بأن الغالبيةَ العظمى ممن بايعوه نكثوا بيعتَهم له وآثروا حياةَ الذل والخنوع على حياة العزة.
لم يتراجع الإمَـامُ زيدٌ عَلَيْهِ السَّــلَام في قراراه بل استمر هو ومَن صدق معه من القلة المؤمنين وبإمْكَانياتهم القليلة في مواجهة جَيْشِ الطغاة الذي بلغ قوامُه اثني عشر ألف مقاتلٍ في معركة استمرت ثلاث أيام، قُتل في أول يوم منها ما يزيدُ عن ألفي مقاتل من جيش بني أمية، وَنتيجةً للخذلان وقلّة الناصر وكثرة العدوّ، تغيرت موازينُ المعركة وفي نهاية يوم الخميس، أصيب الإمَـام زيد عَلَيْهِ السَّــلَام بسهم في جبينه وأدرك بلوغَه الشهادةَ وأوصى ابنه يحيى بمواصلة الثورة من بعده، وبمجرد نزع السهم نال عَلَيْهِ السَّــلَام الشهادةَ ودُفن جثمانُه الطاهر ولكن عندما عرف الأعداءُ مكانَ دفنه أخرجوه وقطعوا رأسَه كما قُطِعَ رأسُ جده السبط وطافوا به البلدانَ كما طاف أسلافُهم برأس الحسين عَلَيْهِ السَّــلَام.
استشهد الإمَـام زيد عَلَيْهِ السَّــلَام وبقيت القيمُ والمبادئ التي أرساها في ثورته المباركة ومشروعه التحرّري؛ ليجسدها أهل الحق في مواجهة أهل الباطل في كُـلّ زمان ومكان؛ ولتمتد آثارها وأهدافها عبر العصور وإلى كُـلّ الأجيال.
ومن فضل الله على أهل اليمن أنهم تشربوا حب الإمَـام زيد فاتخذوه إمامهم ورمزاً لمذهبهم وها هم اليوم يحملون مبادئَه ويجسّدون ثورتَه في واقع حياتهم وفي مواجهة طغاة هذا العصر من المعتدين الذين استباحوا أرضَهم وعِرضَهم ظلماً وجوراً وبلا وجه حق.
هكذا هي ثورةُ الإمَـام زيد عَلَيْهِ السَّــلَام الأكاديمية التحرّرية لليمنيين والتي يتخرّجُ منها وللعام الخامس العظماءُ في زمن الذل والانحدار، والأبطالُ في زمن الضعف والانكسار.