الحلم (1) …. الحلمُ ضبطٌ إرادي للانفعال في مواجهة إساءات الآخرين
أم مصطفى محمد
يقولُ اللهُ تعالى في محكم كتابه: ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ ويقول أَيْضاً: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
الحلمُ من أشرف السّجايا وأعزّ الخصال الأخلاقية، فهو الدليل على سموّ النفس، وكرم الأخلاق، وهو السبب للمودة والألفة بين الناس في المجتمع كون صاحب هذا الخلق يعيش السلام دائماً مع نفسه ومع الآخرين، فالحلم هو اعتدال القوة الغضبية عند الإنسان وطمأنينة النفس بحيث لا يحرّكها الغضب بسهولة ودون مبرّر ولا يزعجها المكروه بسرعة، فالحليم إذَا وقع في شيءٍ على خلاف ما تميل إليه نفسه أَو وصل إليه مكروهٌ أَو أمر غير مناسب فإنه لا يخرج عن طوره ولا يغضب بل يكظم غيظه ويواجه الواقع بهدوء ورويّة وحكمة يقول الإمام علي عليه السلام عندما سُئل عن الحلم “هو أَن تملك نفسك وتكظم غيظك ولا يكون ذلك إلا مع القدرة” ولذلك وردت روايات كثيرة عن أهل البيت عليهم السلام تبين فضل خلق الحلم فعن الإمام زين العابدين عليه السلام أنه قال: “إن الله عز وجل يحب الحيِي الحليم” وعن الإمام الحسن عليه السلام أنه قال “لا يكون الرجل عابداً حتى يكون حليماً وإن الرجل كان إذَا تعبّد في بني إسرائيل لم يُعدّ عابداً حتى يصمت قبل ذلك عشر سنين” وعن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال “إذا وقع بين رجلين منازعة نزل ملكان فيقولان للسفيه منهما: قلت وقلت وأَنت أَهل لما قلت ستُجزى بما قلت، ويقولان للحليم منهما: صبرت وحلمت سيغفر الله لك إن أَتممت ذلك قال فإن ردَّ الحليم عليه ارتفع الملكان” كما سمع أمير المؤمنين عليه السلام رجلاً يشتم قنبراً، وقد رام قنبر أن يردّ عليه فناداه أمير المؤمنين عليه السلام “مهلاً يا قنبر، دع شاتمك مُهانا، ترضي الرحمن وتسخط الشيطان وتعاقب عدوك فوالذي فلَقَ الحبة وبرأ النسمة ما أرضى المؤمن ربه بمثل الحلم ولا أسخط الشيطان بمثل الصمت ولا عُوقب الأحمق بمثل السكوت عنه” كما نجده عليه السلام يقول “أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل).
إن الحلم خُلُقٌ من أخلاق الإسلام العظيمة في كونه يتمثل فِي تريث الإنسان وتثبته فِي الأمر، فهو ضبط إرادي للانفعال في مواجهة إساءات الآخرين ابتغاء وجه الله، وهذا الضبط الإرادي يعطى الحليم الفرصة للتفكير الهادئ والتقدير السديد لتلك الإساءات، فيقرّر بطريقة سليمة خُلقيًا ودينيًا أن يقابلها بمثلها أَو يعفو عنها وبالتالي يكفل الحلم لصاحبه البقاء ضمن إطار القانون والفضيلة ويجنبه تجاوزهما، أما الخير الذى يجنيه الغير من حلم الحليم فهو الأمن من الظلم أَو انتهاك الفضيلة والقانون بالاعتداء أَو بالعقاب المخالف لهما، وكذلك يُتيح الحلم للغير الفرصة لنيل العفو والصفح عن إساءته، وعندما نتأمل آيات القُــرْآن الكريم التي تتحدث عن الحلم نجد أنها تذكره كصفة لله -عز وجل- ثم لأنبيائه – صلوات الله وسلامه عليهم وأنها تقرنه -غالبًا- بالمغفرة يقول تعالى (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ويقول أَيْضاً (اعلّموا أن اللَّه غفورٌ حليم) كما نجده يقول (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ) ويلاحظ أن الصيغة اللغوية التي ذُكر بها الحلم فِي القُــرْآن الكريم هي الصفة ولكنها مع ذلك تشير إلى حث القُــرْآن على الحلم بطريقة غير مباشرة فهي صفة رفيعة وصف الله بها ذاته تعالى ثم وصف بها أنبياءه عليهم الصلاة والسلام.
وقد ورد فِي السنة النبوية العديد من الأحاديث التي تحث على فضيلة الحلم وتغري المسلمين على الالتزام بها يقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـــهُ وَسَلَّمَ- «ما من جرعة أعظم أجرًا عند الله من جرعة غيظ كظمها ابتغاء وجه الله» ويقول أَيْضاً «ألا أدلكم على أشدّكم؟ أملككم لنفسه عند الغضب» كما نجده -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـــهُ وَسَلَّمَ- يقول «ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذى يملك نفسه عند الغضب» ففي هذه الأحاديث – فضلاً عن الحث الصريح والندب الواضح إلى فضيلة الحلم – بيان لعدة حقائق تتعلق بهذه الفضيلة، أول هذه الحقائق يتمثل في كون الغيظ أَو الغضب العنيف مسلمة أولية للحلم وَإذَا لم يوجد غضب لأي سبب لم يعد للحلم مكان، وثاني هذه الحقائق يتمثل في أن الحلم فضيلة صعبة المنال؛ لأَنَّها تتطلب شخصية خُلقية قوية، وإرادة خلقية ماضية لضبط الانفعال العنيف ولذلك نجد أن هذه القيمة الخُلقية للحلم ترتهن بنية الفوز برضا الله أَو قصد وجه الله.