“نصرٌ من الله” لكرامة الإنسان
د. أحمد الصعدي
جاء في قاموس ((التعريفات)) للفيلسوف والمفكر أبي بكر عبدالرحمن السقّاف في تعريف الكرامة أنها ((مقولةٌ أَخْــلَاقية فحواها قيمةُ الإنسان المطلقة بما هو كائنٌ اجتماعي عاقل. كتب فلاسفةُ الإغريق والرومان عن كرامة الإنسان، وفي المسيحية إشارة صريحة وواضحة إلى أن الإنسان مخلوق على صورة الله، وتكريم بني آدم في القرآن الكريم وقضية استخلافه في الأرض جلية في غير سورة)) (صحيفة التجمع، العدد٦١٧، الاثنين، ٣ مارس ٢٠٠٨).
ويضيفُ السقافُ في تلخيصِه لمفهوم الكرامة أَنَّها صورةُ وعي الذات وتقديرها وضبطها ومعرفة المسؤولية المناطة بها نحو الذات والآخرين، كما يبين أن إثباتَ الذات والحفاظ على الشخصية وكرامتها ممكنٌ فقط عبر الاعتراف والاحترام الذي يبديه الشخص للآخرين، وأن هذا هو ما جعل من مفهوم الكرامة في العصر الحديث، وفي التاريخ المعاصر موئلاً نظرياً وأَخْــلَاقياً وسياسياً لحقوق الإنسان، وجعلت منه الدساتيرُ الديمقراطية معيناً لحقوق متجددة ومتنوعة.
إن القولَ بأن الكرامة الإنسانية قيمة أَخْــلَاقية مطلقة يعني انها مثال أَخْــلَاقي، وبين المثال والواقع مسافةٌ وإلا لما كان مثالاً يرشد ويحفز الوعي والممارسة الأَخْــلَاقيين على التطلع إلى الأفضل.
ويقدم التاريخ الإنساني أدلةً كثيرةً على المواجهة الدائمة بين التوحش وشتى أساليب إهدار الكرامة الإنسانية وبين السعي لصون حياة الإنسان وكرامته وجعله قيمة عليا، وهذا ما أوصت به الأديان وسعت لتبريره عقلياً ومنطقياً الفلسفةُ الأَخْــلَاقية على مر العصور.
من هذه الزاوية يجدُرُ بنا التوقفُ مليًّا عند النصر الأَخْــلَاقي الجلي الذي تحقّق في عملية ((نصر من الله))، والذي لا يجوزُ بأي حال التقليلُ من شأنه بالتركيز على العربات والآليات المدمّرة فقط.
إن التعامُلَ الذي لقيه الأسرى جسّد عقيدةً أَخْــلَاقيةً ثابتةً لا تسمحُ بإهدارِ كرامة الإنسان أَو احتقاره وإذلاله حتى لو كان عدوًّا وفي أخطر واحرج الظروف. ففي غمرة المواجهات العسكرية ودوي القذائف ولعلعة الرصاص، وتحليق وقصف الطيران لم يسمح المقاتلُ اليمني لنفسه بالتفريط بمبدئه الأَخْــلَاقي، بل تحمَّلَ كلفةَ تجنيب الأسرى قصفَ الطيران وقام بإيوائهم ونقلهم وسقط العديدُ من الشهداء في إنجاز هذه المهمة النبيلة، وكان يستطيعُ حصارَهم وتركَهم لطيران العدوان ليصفِّيَ حسابَه مع أدواته.
قال أحدُ الأسرى مخاطباً مجاهدي قواتنا المسلحة: ما سلمنا لكم إلّا ونحن نعرفُ معاملتَكم، وهذا اعترافٌ بأن التعامل مع الأسرى انطلاقاً من روح الدين وأصالة أَخْــلَاق الشهامة والشجاعة والنبل قد صار سلاحاً معنوياً مؤثراً في جبهة العدوّ إلّا أنه لم يكن ذريعةً بل موقفٌ عقائديٌّ راسخٌ.
إن احترامَ كرامة الأسير يعني احترامَ كرامة الإنسان بوجه عام، وهذا التعميمُ هو الأرضية التي نشأت عنها المفاهيمُ الأَخْــلَاقية العامة، وكُلُّ خصم يتسم بشيء من الشجاعة لا يستطيع إلّا أن يعترفَ بالتفوق الأَخْــلَاقي للجيش واللجان الشعبيّة في التعامل مع أسرى الحرب منذ بداية العدوان، وبرز بصورة أوضح وأقوى في عملية ((نصر من الله)) التي كانت نصراً مبيناً للكرامة الإنسانية. وأي إنسان يستطيع أن يُعمِلَ خيالَه ليرى ما كان سيحدُثُ لو أن العدوانَ ومرتزِقته هم الذين انتصروا وأن تلك الحشود الكبيرة من الأسرى هم من الجيش واللجان!
نحن أمام جبهتَين متقاتلتين في مجال الأَخْــلَاق، وقد علّمنا القرآن الكريم أن كلاً يعمَلُ على شاكلته.