السوق السوداء.. بين أزمة المشتقات النفطية وأزمة المعايير الأخلاقية..!
عبدُالقوي السباعي
في ظل تفاقمٍ متصاعد لأزمة المشتقات النفطية، وتحت وطأة عدوانٍ غاشم وحصارٍ خانق يسوقهُ تحالفُ العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي بكلِّ وسائلهِ وأساليبهِ المتجردة من كُـلِّ أدبيات وآداب الحرب، والمنافية لكلّ القيم والأعراف الإنسانية والأخلاقية، وفي ظل صمتٍ أمميٍّ رهيب، يأتي مخيباً كعادتهِ لآمال وتطلعات البسطاء والمستضعفين في كلِّ أرجاء العالم.
وكما هو الحال وفي ظل الظروف الناشئة، تفشت بشكلٍ ملفت وعلى نحو مريب ظاهرةُ (السوق السوداء)، التي كانت فيما مضى حِكراً على مجموعةٍ من السماسرة وأساطين الفسادِ والإفسادِ، الذين يقتاتون على الأزمات ويتعيشون على آلام الناس وأوجاعهم، باتت اليوم ظاهرة ينظر إليها العامَّةُ على أنها طبيعيةٌ ومتنفسٌ يسدُّ جزءاً من حاجياتهم؛ نتيجةً لشحة الكميات الواردة من الوقود التي بالكاد تغطي الندر اليسير من متطلبات السوق المحلية، الأمر الذي أخلَّ بقانون العرض والطلب، بينما ينظر إليها الجانبُ الحكومي بتغاضٍ، معتبراً إياها شراً لا بدَّ منه؛ نتيجةً للقصور في الوعي الاستهلاكي لدى مالكي السيارات بمختلف أنواعها، ونهَمهم الزائد وإقبالهم الحثيث وغير المبرر على محطات الوقود في طوابيرَ لا متناهية، مما ينحو بالكثير إلى اللجوء للسوق السوداء؛ لتغطية احتياجاتهم من الوقود.
أرى -من وجهة نظري الشخصية- أن كلتا النظرتين تبدوان مقنعتين، سواءً تلك التي ترى ظاهرةَ السوق السوداء طبيعيةً، أَو الأُخرى التي تراها شراً لا بُدَّ منه، خصوصاً ونحن نَمُّرُ في ظل ظروفٍ استثنائية، رغم يقيني أنَّ حكومةَ الإنقاذ الوطني لم تدخر جهداً في إدارتها للأزمات المختلفة التي مرت وتمر بها البلادُ بكلِّ مهنية واقتدار، ومنها إدارتُها لأزمة المشتقات النفطية الوشيكة الانفراج عما قريب إن شاء الله.
لكن حين أدارت حكومةُ الإنقاذ الوطني للأزمة، ومن خلال شركة النفط اليمنية وعبر سلسلةٍ من الإجراءات، بدءاً بتأمين وصول المشتقات النفطية إلى مراكز البيع للجمهور وجدولة المحطات المناوبة، وتحديد ومراقبة الأسعار، وربط المركبات المستفيدة وفق قاعدة بيانات متطورة، وتحديد نسب الاستهلاك وفترته.. والكثير الكثير من الجهود المبذولة والمشكورة.. لكن في إطار استفحال السوق السوداء لم تحَرّك ساكناً، فنحنُ اليوم بحاجة ماسة لإدارة أزمة الوعي والإدراك (الترشيد الاستهلاكي)، وأزمة الانسلاخ من القيم والأخلاق اليمنية الأصيلة، أصبحنا نستيقظ على الكثير من المشاهد اليومية المتكرّرة التي تنم عن تدهورٍ وتدَنٍّ في مدى الوعي والإدراك المجتمعي، عن تراجع للقيم والأخلاق.
نرى بعضاً ممن يقوم بإخراج السيارات العاطلة وجرها؛ لتأخذَ مكانَها في طوابير التعبئة، وكيف يسعى البعضُ لاستنفاد كلِّ الحيل والألاعيب التي تمكّنه من التملص عن الطوابير، كيف تحول معظم مالكي السيارات إلى باعة ينتشرون في الشوارع والجولات؟ كيف يتنافس الجميعُ أيهم يبيع بأكثر؟ كيف تحوّلت سياراتُ الأجرة والباصات والموتور وعموم وسائل النقل إلى وسيلة ابتزاز لكلِّ من يسعى للاستفادة من خدماتها؟ كم شخصٍ أفاق منتصف الليل على صراخ زوجته التي يفاجئها الطلقُ ليسعفها، وعند أقرب سوق سوداء يشتري حاجته؛ لتوصلَه إلى أقرب مستشفى، لكنه لم يصل؛ لأنه قام بشراء ماءٍ ممزوجٍ بحمرة البترول؟ وكم هي قصص الغش والخداع..؟ وكلُّ ذلك وغيره الكثير مما يتنافى مع أخلاقنا وقيمنا وعاداتنا.
على الجميع إدراكُ تبعات ذلك؛ كوننا جميعاً في دائرة الاستهداف، وكلنا متضررون، فما علينا إلّا أن ندركَ أنَّ النهمَ على شراء البترول هو من ساهم في اتّساع رقعة الطوابير أمام المحطات، ساهم في إخراج أصحاب النفوس الدنيئة، وأن شراءنا للوقود من السوق السوداء بالسعر الذي يناسب الباعة ساهم في تحول الكثير إلى باعة جشعين وغشاشين، نحن من ساهمنا بأن تكون تجارتُهم رائجةً وأرباحُهم خياليةً، فبالوعي والإدراك والبصيرة سندير أزماتنا ونساعد أنفسنا على تخطيها، فبقدر حاجتنا إلى قوانينَ تنظّم وتراقب وتضبط عملَ السوق البيضاء والسوداء، بقدر ما نحتاج إلى إخضاع أنفسنا للرقابة الإلهية؛ تجسيداً للوازع الديني وامتثالاً للوازع الأخلاقي وتفعيلاً للمسؤولية الوطنية، عندها لا أزمات ولا عدوان ولا غيره سيحرك شعرةً من انتمائنا الأصيل..