ضربة «أرامكو» وتبعاتُها الإقليمية والدولية
نايف أحمد القانص*
التطوراتُ المتسارعةُ في المِـلَـفِّ اليمني منذ قرابة خمس سنوات، والتي أدّت إلى مفاجآتٍ كبيرةٍ غيّرت قواعدَ اللعبة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، خصوصاً بعد دخول الطائرات المُسيّرة على خط المواجهات واستهداف العُمق السعودي من قِبَل الجيش واللجان الشعبيّة، أحدثت شرخاً في تحالف العدوان السعودي الإماراتي المدعوم بشكل مباشر أمريكياً وبريطانياً. ولعلّ الضربة المُسيّرة التي قُتل فيها ما يُسمى قائد «اللواء الأول دعم وإسناد»، منير اليافعي (أبو اليمامة)، كانت بمنزلة الشرارة التي أشعلت النار من تحت الرماد، وكشفت عن عمق الخلافات داخل صفوف ما يُسمّى «الشرعية»، فكان انقلاب «الانتقالي» واستيلاؤه على العاصمة المؤقتة عدن وعدد من المحافظات الجنوبية: أبين، لحج، الضالع، وحتى شبوة التي اندلعت فيها المعارك بين ميليشيا «الانتقالي» وميليشيا «الإخوان»، أَو ما يسمى «جيش الشرعية»، ومن ثم محاولة الميليشيات «الإخوانية» السيطرة على عدن، لتدخل الإماراتُ على خط المواجهات، وتقصف تلك الميليشيات، وتقتلُ ما يزيد على 300 جندي في صفوف مقاتلي «الشرعية» المدعوم سعودياً، والذي يضمّ في مكوّناته العديد من المجاميع المتطرفة الإرهابية.
كُـلُّ هذه التبعات غيّرت قواعد اللعبة على المستويين المحلي والإقليمي، عسكرياً وسياسياً، فكانت عودة التفاهمات الإماراتية ــ الإيرانية، وإرسال الوفود، وعقد الاتّفاقات السرية وغيرها، وإعلان الإمارات الانسحاب الشكلي من اليمن. تستمرّ الاتّهامات من قِبَل الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية لإيران بأنها وراء ضربات الطائرات المسيّرة التي وصلت إلى الدمام وغيرها، لتأتي عملية «أرامكو» في بقيق وخريص، والتي ولّدت أزمة اقتصادية عالمية بعد تعطيل ما يقارب نصف إنتاج النفط السعودي، لتؤكّـد أن النفط والاقتصاد العالمي باتا ضمن مرمى الأهداف، وأن الصمت الدولي تجاه حرب اليمن لم يعد له مبرّر ولا يمكن أن يستمر، ودائرة الحرب لم تعد اليمن فقط بل ستشمل الإقليم، وَأَيْـضاً ستكون تبعاتها الاقتصادية عالمية، وهو ما أثبته ارتفاع بورصة النفط عالمياً بعد ضربة «أرامكو».
لم تجد الولايات المتحدة الأمريكية والسعودية ما يغطي فضيحة «أرامكو» واختراق منظومتهما الدفاعية التي أُنفقت عليها مليارات الدولارات إلا أن تتّهما إيران بأنها وراء الضربة، وهذا الاتّهام أضعفهما أكثر أمام العالم. فبعد تلك التهديدات لإيران بنقل المعركة إلى أراضيها وزعزعة أمنها من قِبَل وليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان، بحسب تصريحاته السابقة، وكذلك تهديدات أمريكا بضربة استباقية، خَاصَّة بعد إسقاط الطائرة الأمريكية، بدأت تلك التهديدات تتراجع إلى مضاعفة العقوبات الاقتصادية وطلب أمريكا الحوار مع إيران، توازياً مع توالي فضائح النظام السعودي، الذي أراد من حرب اليمن أن تكون «بروفة» لحروبه القادمة في المنطقة لمواجهة إيران وتركيا، لتفرض السعودية نفسها الدولة الإقليمية الأقوى في الشرق الأوسط والحليف الاستراتيجي الأول لأمريكا. لكن السعودية غرقت في اليمن وانفضحت عسكرياً وسياسياً. وهنا نسأل: ما دامت السعودية تكيل الاتّهامات لإيران، حتى إنها سوّقت لعدوانها على اليمن بأنه مواجهة لإيران، وفي الوقت نفسه تتّهم إيران بأنها وراء ضربة «أرامكو»، فلماذا لا تردّ عليها؟ أليست هذه فرصة مناسبة لها؟
إن الولايات المتحدة والسعودية عاجزتان عن إثبات ضلوع إيران في ضرب «أرامكو»، على رغم كُـلّ ما تدّعيانه من قدرات تكنولوجية ووجود أقمار صناعية تكشف أبسط الأمور وأدقّها. وقد أرادتا من خلال الحرب على اليمن، وقبلها الحرب الإرهابية على سورية، السيطرة الكاملة على الشرق الأوسط وثرواته ومقدّراته، وفرض التطبيع مع العدوّ الصهيوني، وتصفية القضية الفلسطينية، وحرف بوصلة العداء نحو إيران، وعزل سورية عن محيطها العربي، والتفرُّغ لتصفية حزب الله أَو نقل «التحالف» المزعوم بعد ذلك من اليمن إلى لبنان للقضاء على الحزب وعلى المقاومة، وإيجاد منطقة عازلة مع سورية لتأمين الكيان الصهيوني. كُـلّ هذه المخطّطات أفشلها الصمود الأسطوري لليمن، وانتصارات الجيش العربي السوري، لتأتي المفاجآت من الحدود الجنوبية للسعودية متزامنة مع اجتماع الهيئة العامة للأمم المتحدة، وبعد إطلاق مبادرة يمنية من قِبَل رئيس المجلس السياسي الأعلى مهدي المشَّـاط. جاءت المفاجأة على لسان الناطق باسم القوات المسلحة اليمنية، العميد يحيى سريع، الذي أعلن انهيار ثلاثة ألوية بكامل عتادها الحربي، واستسلام جميع عناصر تلك الألوية وأَسْرهم، ومقتل ما يقارب 500 جندي معظمهم بطائرات العدوان، ليُستثمر المشهد بين التكذيب والتصديق، ويخرج إعلام العدوّ بتكذيب كُـلّ ما شمله البيان، لتكون المفاجأة الأكبر بأن وثّق الناطق باسم القوات المسلحة اليمنية بيانه بعرض مشاهد تفضح دولة العدوان. مشاهد لم نرَ مثلها منذ الحرب العالمية الثانية، لعناصر الألوية المذكورة يسلّمون أنفسهم، فالأسلوب الإعلامي المحترف الذي اعتمده الإعلام الحربي اليمني هو بمنزلة معركة إعلامية تفضح كُـلّ يوم زيف القوة الوهمية لتحالف العدوان، وخسائره المهولة في المعارك البرية على الحدود الجنوبية، وسيطرة الجيش واللجان الشعبيّة على مساحات واسعة في العمق السعودي، ليأتي الردّ من واشنطن بالترحيب بمبادرة المجلس السياسي الأعلى على لسان ابن سلمان الذي اعتبرها إيجابية، وقال إنه مستعدّ للحوار مع صنعاء، وأكّـد ذلك أَيْـضاً الموقف الأمريكي. وكأن الأحداث تعيد نفسها، ومن حيث أعلن الحرب يعلن بدء حوار إيجابي، وتتدخل دول عربية كوسيط لمساعدة السعودية للخروج من مأزق اليمن، وعلى رأسها العراق والكويت وسلطنة عُمان. لقد أفشل الجيش واللجان الشعبيّة كُـلّ المخطّطات التي وضعتها للولايات المتحدة ومعها الكيان الصهيوني، الذي علّق كُـلّ آماله على «التحالف العربي» المزعوم ليحقّق له ما فشل في تحقيقه في سورية، لتكون إيران هي المحطة الأخيرة لتصفية القضية الفلسطينية وإعلان الكيان الصهيوني «دولة صديقة» للعرب يوفرون لها الحماية والأمان والسلام، بينما تصبح إيران هي مصدر الإرهاب وزعزعة أمن المنطقة.
لقد أصبحت مبادرة المجلس السياسي الأعلى محطّ اهتمام إقليمي ودولي، خصوصاً بعدما تبع المبادرةَ إطلاق 350 أسيراً من قوات العدو، بينهم سعوديون، لإثبات حسن النية في ظلّ اتّفاق ستوكهولم الذي نفذته حكومة صنعاء من طرف واحد، خَاصَّة على صعيد إعادة الانتشار في الحديدة. وتُوّجت هذه المبادرة بتحَرّكات للمبعوث الأممي، مارتن غريفيث، وزيارته صنعاء، ولقائه السيد عبد الملك الحوثي، حيث ثمّن مرونة حكومة صنعاء، واصفاً اللقاء مع السيد الحوثي بـ«الممتاز»، لتنقل بعد ذلك صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية عن مسؤولين سعوديين موافقة السعودية على وقف جزئي لإطلاق النار يشمل أربع مناطق، منها العاصمة صنعاء، بعد أسبوع على إعلان حكومة صنعاء وقف استهداف الأراضي السعودية من جانب واحد، مقابل خطوة مماثلة من الرياض، وذلك في ذروة التصعيد والتفاعل الدولي بعد استهداف «أرامكو».
بعد كُـلّ هذا، أصبحت السعودية تجنح إلى السلم، كذلك سحبت أمريكا عدداً من حاملات الطائرات من الخليج خشية استهدافها، وقد أرسلت وسطاء إلى إيران طلباً للحوار معها، وعلى رأسهم رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، ورئيس الوزراء الباكستاني عمران خان. ولا يخفى على أحد أن تفجير الوضع في العراق هو من تبعات فشل السعودية وأمريكا في اليمن، وقبله في سورية، وقد تمّ بذلك اللجوء إلى الخطة الثالثة في استهداف قطر عربي جديد له علاقة طيبة مع إيران، وخصوصاً بعد فتح معبر البوكمال مع سورية، وعودة الجامعة العربية إلى سورية، وتشكيل اللجنة الدستورية السورية، وتنامي قوة الردع لدى حزب الله ضدّ الكيان الصهيوني.
والجدير ذكره، هنا، أن إعادة فتح المعبر ستمكّن إيران من تصدير نفطها وغازها بسهولة، لتُفشل بذلك الخطة الأمريكية في حصارها وإجبارها على تقديم تنازلات.
إذاً، اليمن ينتصر، وتحالف العدوان يفشل، ولم يعد أمامه سوى محاولات إغلاق مِـلَـفّات فشل فيها، وفتح أُخرى جديدة يحاول أن يخرج من خلالها بما تبقّى من ماء الوجه. وما محاولة اغتيال اللواء قاسم سليماني منذ أيام قليلة سوى جزء من مخطّط الهروب إلى الأمام، لكن محور المقاومة الذي صمد في اليمن وسورية ولبنان وإيران والعراق أفشل المخطّطات، وسيتجاوز كُـلّ تلك المحاولات، وينتصر.
* السفير اليمني لدى سوريا