أسبابُ وبواعثُ الغضب
أم مصطفى محمد
لقد حذّر الإسلامُ من صفة الغضب؛ كونها حالةً نفسيةً تبعَثُ على هياج الإنسان وثورته قولاً أَو عملاً، فهي مفتاحُ الشرور ورأس الآثام وداعية الأزمات والأخطار، ولقد تكاثرت الآثار في ذمه والتحذير منه: يقول الرسول الأعظم -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلَـــهُ وَسَلَّمَ- «الغضب مفتاح كُــلّ شر» وإنما صار الغضب مفتاحاً للشرور لما ينجم عنه من أخطار وآثام كالاستهزاء والتعيير والفحش والضرب والقتل ونحو ذلك من المساوئ، كما نجد أمير المؤمنين عليه السلام يقول «واحذر الغضب فإنه جند عظيم من جنود إبليس» ويقول عليه السلام «الحدّة ضرب من الجنون؛ لأَنَّ صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم» كما أن رسولَ اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلم أتاه رجل بدويّ فقال: إني أسكُنُ البادية فعلّمني جوامع الكلام فقال: آمرك أن لا تغضَبَ. فأعاد الأعرابي عليه المسألة ثلاث مرات حتى رجع إلى نفسه فقال: لا أسأل عن شيء بعد هذا، ما أمرني رسول اللّه إلا بالخير..» ولعلنا نجد أن الغضب لا يحدث عفواً واعتباطاً وإنما ينشأ عن أسباب وبواعث تجعل الإنسان مرهف الإحساس، سريع التأثر فقد يكون منشأ الغضب انحرافاً صحياً كاعتلال الصحة العامة أَو ضعف الجهاز العصبي مما يسبب سرعة التهيج، وقد يكون المنشأ نفسياً منبعثاً عن الإجهاد العقلي أَو المغالاة في الأنانية أَو الشعور بالإهانة والاستنقاص ونحوها من الحالات النفسية التي سرعان ما تستفز الإنسان وتستثير غضبه وقد يكون المنشأ أخلاقياً كتعود الشراسة وسرعة التهيج مما يوجب رسوخ عادة الغضب في صاحبه، فهذه البواعث تجعل للغضب أضرار جسيمة وغوائل فادحة تضرّ بالإنسان فرداً ومجتمعاً، جسمياً ونفسياً، مادياً وأدبياً، فكم غضبة جرحت العواطف وشحنت النفوس بالأضغان وفصمت عرى التحابب والتآلف بين الناس، وكم غضبة زجت أناساً في السجون وعرضتهم للمهالك، وكم غضبة أثارت الحروب وسفكت الدماء فراح ضحيتها الآلاف من الأبرياء، كُــلّ ذلك بالإضَافَة إلى ما ينجم عن الغضب من المآسي والأزمات النفسية التي قد تؤدي إلى موتِ الفجأة.
إن الغضب يحيل الإنسان بركاناً ثائراً يتفجر غيطاً وشراً، فإذا هو إنسان في واقع وحش، ووحش في صورة إنسان وَإذَا بلسانه ينطلق بالفحش والبذاء وهتك الأعراض، وَإذَا بيديه تنبعثان بالضرب والتنكيل، وربما أفضى إلى القتل، هذا مع سطوة الغاضب وسيطرته على خصمه، وإلا انعكست غوائل الغضب على صاحبه فينبعث في تمزيق ثوبه ولطم رأسه، وربّما تعاطى أعمالاً جنونية كسبّ البهائم وضرب الجمادات.
إنّنا نجد أن الغضب المذموم هو ما أفرط فيه الإنسان وخرج به عن الاعتدال متحدياً ضوابط العقل والشرع، أما المعتدل فهو من الفضائل المشرّفة التي تعزز الإنسان وترفع معنوياته كالغضب على المنكرات والتنمّر في ذات اللّه تعالى، ولعل الدين الإسلامي قد جاء بعلاج لصفة الغضب المذموم فبين أنه إذَا كان منشأ الغضب اعتلالاً صحياً أَو هبوطاً عصبياً كالمرضى والشيوخ ونحاف البنية فعلاجهم في هذه الحالة بالوسائل الطبية من خلال تقوية صحتهم العامة وتوفير دواعي الراحة النفسية والجسمية لهم كتنظيم الغذاء والتزام النظافة وممارسة الرياضة الملائمة واستنشاق الهواء الطلق وتعاطي الاسترخاء العضلي بالتمدد على الفراش كُــلّ ذلك مع الابتعاد عن مرهقات النفس والجسم كالإجهاد الفكري والسهر المضني والاستسلام للكآبة، ونحو ذلك من دواعي التهيج.
إننا نجد الإسلام يذكر بمساوئ الغضب وأخطاره وآثامه، ويبين أنها تحيق بالغاضب وتضرّ به أكثر من المغضوب عليه، فرب أمر تافه أثار غضبة عارمة أودت بصحة الإنسان وسعادته، يقول بعض باحثي علم النفس (دع محاولة الاقتصاص من أعدائك فإنك بمحاولتك هذه تؤذي نفسك أكثر مما تؤذيهم) إننا حين نمقت أعداءنا نتيح لهم فرصة الغلبة علينا، وإنّ أعداءنا ليرقصوا طرباً لو علموا كم يسببون لنا ممن القلق وكم يقتصّون منّا، إنّ مقتنا لا يؤذيهم، وإنّما يؤذينا نحن، ويحيل أيامنا وليالينا إلى جحيم مستعر.