خيارُ إسقاط المقاومة اللبنانية في دارها وَهْــمٌ
سندس يوسف الأسعد
تعودُ من جديدٍ قضيةُ التظاهرات الشعبيّة المطلبية المندّدة بتراجع الواقع الاقتصادي في العالم العربي، تحديدًا في العراق ولبنان، هذه التظاهرات تتواصل في لبنان للأسبوع الثاني على التوالي وسطَ إجراءات أمنية مشدّدة يتخذها الجيشُ والقوى الأمنية، وفي سياق الاستجابة لضغط الشارع، طرحت الحكومة اللبنانية -بالتوافق مع الكتل السياسية- ورقةً إصلاحيةً يفترضَ أن تلبيَ جزءاً من تطلعات الشعب وتحدّ من الضرائب المجحفة بحقه.
ومن المؤكّـد أن الاحتجاجاتِ فَرَضت على الحكومة واقعًا إصلاحيًّا جديدًا، وحملتها على الإقرار بالفساد المستشري، وبالتالي وجوب المضي نحو الإصلاحات والمعالجات ومحاسبة المفسدين، إذَا لا يوجد عاقلٌ ينفي أحقيةَ هذه التحَرّكات، بيدَ أن أبواقَ صهيوأمريكية مشبوهة استغلت منذُ اليوم الأول فرصة الغضب الشعبي؛ لتنفيذ أجندتها الهادفة إلى إحداث فراغ وفوضى سياسية، هدفها الأولُ والأخيرُ الانتقامُ من انتصارات المقاومة وحضورها القوي في الساحة اللبنانية.
منذُ اللحظة الأولى لانطلاق الحراك الشعبي تصدر أميرا الحرب الأهلية، تحديدًا زعيم حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع، وزعيم حزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط، وبعض الأطراف المناوئة للسفارتين الأمريكية والسعودية الذين تتقاطع مواقفهم أَيْـضاً مع مصالح العدوّ الصهيوني، تصدر هؤلاء لحرف المظاهرات المحقّة واستغلال الغضب الشعبي للتهجّم على المقاومة وخياراتها، فبينما رفع الآلاف أصواتهم مطالبين بمحاسبة الفاسدين ومندّدين بنظام “الطائف” الذي فرض سياسةً اقتصادية ريعية خاضعة للهيمنة الأمريكية، صوّبَ عملاءُ أمريكيا شعاراتهم على خيار المقاومة الذي كبح جماح الإمبريالية الاستعمارية؛ استكمالًا لمسلسل العقوبات الأخير الذي تنتهجُه واشنطن لمحاصَرة من هزمها وهزم أحلامَها في تموز ٢٠٠٦م، ومؤخّراً في سوريا.
منظومةُ المصارف هي السببُ الرئيسُ للأزمة الحالية، فقد راكم مالكو المصارف وشركاؤهم السياسيون مليارات الدولارات من الديون رغم قدرتهم على انتشال الاقتصاد من الانهيار؛ لذا فإن تحميل العهد -أي عهد رئاسة الجنرال ميشال عون- مسؤولية ما يجري في لبنان ينصب في خانة تلبيس المقاومة وحلفائها مسؤولية الانهيار الحاصل، وهنا نلفت إلى أن الرئيسَ عون كان قد وصف -في ذكرى انتخابه الثانية- سياسة العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على لبنان بـ”الاستعمار المالي”، فقد ساهمت هذه السياسة وعبر فساد رعاتها، تحديدًا حاكم مصرف لبنان، في تجويع اللبنانيين وتدهور أوضاعهم الاقتصادية والخدماتية، رياض سلامة والذي يطلق عليه اللبنانيون اليوم لقب “سارق مصرف لبنان” هو راعي لائحة “اوفاك” الأداة التنفيذية للعقوبات الأمريكية التي تطبقها وزارة الخارجية الأمريكية.
نعم إنها مؤامرة، والهدفُ محاصَرةُ حزب الله شعبيًّا وتشويهُ صورته ونزع سلاحه، هي حربٌ على كُـلّ من يقول “لا” لأمريكا وطموحاتها، وذلك واضحٌ وجلي ويمكن ربطُها بالمقال الذي نشرته الواشنطن بوست بتاريخ ١٦ أكتوبر ٢٠١٩ -أي قبل يومين فقط من انطلاق الاحتجاجات- والمعنون: “خسرنا سوريا، فلنحافِظْ على لبنان” وهذه الحربُ تؤكّـدُها السياسةُ التي تنتهجُها بعضُ وسائل الإعلام المشبوهة في لبنان، والتي تديرُ وتحدّدُ ما الذي يجبُ قولُه في المظاهرات، ومن الملفت أن هذه القنوات أظهرت جهوزيةً لافتةً وتبُثُّ ٢٤/٢٤، فمن الممول؟ إضافةً إلى ذلك، تؤمن جهات مجهول أعلام ويافطات وصوتيات ووسائل نقل الأطعمة مجانية، لنعيد ونسأل، من الممول؟ السيدُ نصر الله كان قد حذّر من ركوب موجة الحراك واستثماره من قبل الأعداء، معبّراً عن خوفه من حَرْفِ مسار الحقوق المطلبية إلى عناوينَ سياسيةٍ تهدفُ إلى محاصرة حزب الله وإبعاده عن حلفائه والتأثير في بيئته الحاضنة، وهو مطلبٌ إسرائيلي بحت.
الأمينُ العام لحزب الله وخلال إحياء أربعينية الإمام الحسين –عليه السلام- كان قد دعا إلى التعاون بين مكونات الحكومة والتضامن وعدم الهروب من المسؤولية، داعيًا إلى أن تستمرَّ هذه الحكومة لكن بروح جديدة ومنهجية جديدة، وأخذ العبرة مما جرى على مستوى الانفجار الشعبي، أمام الوضع الخطير الذي يواجهُه لبنان، وتوجّـه للمتظاهرين بالقول: ”إن أهميّةَ حركتكم أنها كانت عفويةً وصادقةً لا يقفُ أي حزب وأي تنظيم وأية سفارة أجنبية خلفها، ونحن جميعاً نحترم قراركم بالتظاهر ونقدّر صرختكم المعبرة عن وجعكم، رسالتكم وصلت إلى المسؤولين جميعاً ووصلت قويةً” وتوجّـه للقوى السياسية التي تريد إسقاط العهد بأنهم يضيعون وقتهم ووقت البلد، خاتمًا: “نحن في حزب الله لن نتخلى عن شعبنا وبلدنا، ولن نسمح لأحد أن يدفع به إلى الهلاك، ونجدّد التزامنا بكلّ القضايا المحقة في المنطقة وفي بلدنا وشعبنا ولن نترك المظلومين والمعذبين؛ لأَنَّنا قوم لا نترك الحسين”
خطاب السيد نصر الله وتوجيهات حزب الله لأنصاره بعدم الاحتكاك مع أحد من الذين يطلقون شعارات استفزازية كانا كافيين حتى اللحظة لتفهم واشنطن وتل أبيب أنَّ المحاولة والمراهنة على استدراج المقاومة إلى الفخ المطلوب فاشلة، فخ استفزازه وإشغاله في الدفاع عن نفسه في اقتتال داخلي لطالما حلمتا به؛ للإطاحة بمشروع المقاومة وإحداث الفوضى في لبنان.
مشبوهو أَو موظفو الجُوقة الأمريكية هذه هم عبارةٌ عن نشطاءَ ورجالِ دين وإعلاميين وأعضاء منظمات ممولة خارجيًّا، وهم بالطبع يشكلون خطراً حقيقياً على الحراك وجمهوره الحقيقي، كما حذّر قائدُ المقاومة، يستهلكُ هؤلاء المشبوهون، والمعروفة علاقتهم بالموساد، شعاراتٍ رنّانةً لاستقطاب اللبنانيين، كالتعايش الطائفي والتكنوقراط والوحدة والمجتمع المدني… إلخ؛ للتغلغل واستغلال أصحاب القضية.
ما يحصل في لبنان ليس عفويًّا، وهو جزءٌ لا يتجزأ من حرب ناعمة مرتبطة بواشنطن وبسياسات مرسومة مسبقًا، وتابع لمسلسل الفوضى في سوريا والعراق وفنزويلا وغيرهم، متسترٌ بغطاء المطالب الشعبيّة المحقة، وما يؤكّـد ذلك رفضُ هؤلاء الورقة الإصلاحية وتشديدُهم على الإطاحة بالنظام الكامل، أي إسقاط العهد وتحميله كافَّة المسؤوليات في لبنان، هذا يعني كما ذكرنا: ضرب قاعدة المقاومة الشعبيّة وإسقاط رمزيتها ودورها ومكانتها، وبالتالي إحداث شرخ هدفُه الوحيدُ التغطيةُ على الفشل الأميركي في المنطقة، والتغطية على الانتصارات القادمة التي يحقّقها حفاة اليمن الأبطال.
يديرُ الحراكَ اليوم إعلامٌ انتهازي، فاسدٌ ومشبوه، خاضعٌ لسلطة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، الذي استغل نفوذَه ليُسهِّلَ حصول بعض القنوات على قروض مالية كبيرة، المهمة الموكلة إليه هي فرض الفوضى الأمنية في دور يشبه دورَ قناتَي الجزيرة والعربية في الحرب على سوريا، خطر الفوضى والتوتر جدي ويجب التنبّه إليه، فجعجع وجنبلاط أدركا حجمَ هزيمة المؤامرة ضد سوريا، وصعود المقاومة اليمنية، وبالتأكيد فهما يعملان على إعادة تأسيس وقولبة قواعدهما في المؤسّسات العامة المالية والاقتصادية والسياسية المتقلبة، هذان الزعيمان يقودان مليشيات تعيشُ على تمويل الخارج وتريد تسديد الفواتير له، هما ليسا سوى وكلاء سياسيين ينفذّون أجندات واشنطن وتل أبيب، المنهجية في معالجة الأزمة الحالية تتطلب مقاربة جديدة وحوار جدي وتقديم تنازلات متبادلة، وهذا أمر ضروري لتفويت الفرص على كُـلّ مأجور وعميل ومرتزِق.
بالتالي على اللبنانيين الوعيُ والانضباط، وجلُّ ما نتمناه اليوم هو فقط ألا تخرجَ الأمورُ عن السيطرة، وأن يُسقِطَ اللبنانيُّ بوعيه أوهامَ الاستعمار ومشاريعه، الرهانُ اليوم على وعي النُّخب المثقّفة التي قاومت الاستكبار ودفعت ثمن خيارها هذا غاليًا، من هنا نراهن على بصيرتهم وانتفاضتهم بوجه الإعلام المأجور وأمراء الحرب الذين يريدون استغلالهم لتصفية حساباتهم ورهاناتهم التي أسقطتها كياسةُ المقاومة وقيادتها وجيشها وشعبها.