الرحمةُ المهداةُ للعالمين
أمة الرزاق جحاف
من العدالة المطلقة، التي يتصفُ بها اللهُ تَعَالَى، أنه جعلَ رحمتَه شاملةً لكل عَبدٍ من عباده، لم يستثنِ منهم أحدًا، في تأكيدٍ منه سُبْحَانَــهُ، أنه غنيٌّ عن عباده، فلا تزيد طاعتُهم في غناه ولا تضره معصيتهم، فجعل رحمته حقًّا من حقوق برهم وفاجرهم.
ولذلك فقد اشتركوا برحمته في نعمة الخلق، فخلقهم جميعاً في أحسن تقويم، وأقسم بذلك في قوله تَعَالَى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ)، وهي صفةٌ عامةٌ تنطبق على كُـلِّ الجنس البشري، منذُ خلق اللهُ سيدنا آدم -عليه السلام-، حتى يرث اللهُ الأرضَ ومن عليها.
وبرحمته تَعَالَى اشتركوا جميعاً في التمتّع والاستفادة من جميع نعمه الواسعة كماً في عددها، وكيفاً في تعدّد أنواعها، والتي أشار إليها بقوله تَعَالَى: (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) وجعل كُـلَّ نوع منها مناسباً، ومتكيفاً، ومتوائماً مع إمْكَانيات نطاقها الجغرافي الذي ينتجها، واحتياجات الإنسان الساكن في ذلك النطاق.
وبموجب هذه الرحمة سخّر لهم ما في البر والبحر والسماوات وما بينهما، بل وجعلها برحمته حقًّا من حقوق ذلك الإنسان مهما كان بعده وقربه من الله تَعَالَى، ومهما كانت طاعته ومعصيته، قال تَعَالَى مخاطباً الناسَ جميعاً: (أَلَمْ تَرَوْا أنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً)، ونلاحظ في تكملة هذه الآية الكريمة أنه تَعَالَى قال: إنَّ (مِنَ النَّاسِ) ولم يقل من الكافرين، وإنما قال: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ).
فالجدلُ من بعض الناس ما كان سيحصل منهم، إلّا لأَنَّهم بغيرِ علمٍ ولا هدىً ولا كتابٍ منيرٍ، ولو حصلوا على ما ينقصهم وهو العلم والهداية والكتاب المبين، ما جادلوا في الله.
وكان من إتمام وإكمال رحمته -سُبْحَانَــهُ وَتَعَالَى- بالإنسان أن يهديَه، ما يجعل نهايته في الجنة؛ لأن لا ينتهي به المطاف إلى النار، وهي نعمة الهداية التي هي أعظم النعم، فقد اقتضت رحمةُ الله، أن لا يدع عبادَه فريسةً للشيطان ليضلهم في الدنيا، فتسوء حياتهم وتتنكد معيشتهم فتكون كما قال الله تَعَالَى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فإن لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى).
فقضت رحمتُه أن يرسلَ لهذا الإنسان الذي خلقه في أحسن تقويم، وتكفّل برزقه وتدبير شؤونه، عشراتِ الآلاف من الرسل والأنبياء في كُـلِّ زمان وأي مكان تواجد فيه؛ ليدلّوه ويهدوه إلى الصراطِ المستقيمِ؛ رحمةً به من الله ليصلَ إلى الجنة ونعيمها، ويتجنّب الناَر وجحيمها والعياذ بالله.
حتى جاء آخرُ الزمان وقد اتسعت مساحةُ الأرض المسكونة، وتضاعف أعدادُ ساكنيها، فاشتدت الذنوب والمعاصي وطغى الفسادُ على البر والبحر بما كسبت أيدي الناس من جهة، ومن جهة أُخرى كانت قد تراكمت لدى البشر، الكثير من الخبرات التي ستسهل عملية التواصل بينهم في جهات الأرض الأربع، فاقتضت رحمةُ الله تَعَالَى، أن يرسلَ اليهم آخرَ أنبيائه ورسله؛ ليكون رسولاً للعالم كلِّه شرقِه وغربِه، رسولاً واحداً برسالة واحدة ومنهج واحد، للناس كافّة.
هذه الرحمةُ التي تفضّل اللهُ بها على العالمين، والتي ذكرها اللهُ في قوله تَعَالَى: (ومَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) ليكون ما جاء به الرسول الخاتم، حجّةَ اللهِ الأخيرةَ على البشر.
واقتضت رحمةُ الله تَعَالَى أن يكونَ محمد بن عبدالله بن عَبدالمطلب -صلواتُ الله عليه وعلى آله- هو رسولُ الرحمة إلى العالمين؛ لهدايتهم إلى صراط الله المستقيم، الذي سار عليه جميعُ الأنبياءِ والرسلِ من قبله.
وبهذه المهمة المقدّسة التي اختاره اللهُ لها، وخصّه بها، من بين كُـلّ الأنبياء والرسل، اكتملت رسالاتُ كُـلِّ الأنبياء من قبله.
وقد لمست البشرية، بالمنصفين الدارسين والباحثين من علمائها، أنَّ النبيَّ محمد بن عبدالله -صلواتُ الله وسلامه عليه وعلى آله-، جديرٌ بهذا الاصطفاء الإلهي، فلم يسبق لهم أن تعرّفوا على شخصٍ له مثل هذا الكمال والعظمة، التي لم يجدوا لها مثيلاً من بين ما اتّصف به عظماءُ العالم، من المصلحين والعلماء المبدعين، والمبرّزين، وهو كمال لم يكن ليتحقّقَ في هذا النبي العظيم -صلواتُ الله عليه وعلى آله- لو لم يكن قد تمُّ تأهيلُه من الله تأهيلاً كاملاً؛ ليكونَ قادراً على أداء هذه المهمة العظيمة، التي كلّفه اللهُ بها رحمةً للعالمين.