لم يلتفتْ إلى نفسه
محسن الشامي
تجاوَزَ رسولُ الله -صلى اللهُ عليه وعلى آله- حَــدَّ التفاني، بل وصل إلى مرحلة (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ إلّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ)، لم تكن اندفاعةُ خاتم الأنبياء لحظيةً أَو مؤقتة، على طول الوقت كان يشتغل، فهو يعرف مجتمعَه الذي بُعث فيه ويعرفُ أساليبَ الباطل، والإرث الوثني وما ينتج عنه من عوائق مستقبلية (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ).
وتتسع الدائرة (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا) (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)، وهكذا وفق مراحل وبرامج منتظمة تواكب المرحلةَ وتتطور الوسائلُ والأساليبُ بعامل الزمان والمكان؛ لتعالج كُـلَّ الجوانب الإنسانية المعاملاتية والجهادية والتربوية.
أما أسلوبُ رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله- فقد كان أرقى إنسان عرفته البشرية في جميع الجوانب والاختصاصات والمهام، منظّماً تربوياً عالماً سياسياً اقتصادياً، يحاور خصمه فيدحض حجّته، ويفنّد مزاعمه بأدلة قرآنية، وعقلية وواقعية لا تقبل الريب والمساومة.
واجه اليهود وقضى عليهم على هامش عمله الجهادي، خاض كُـلَّ المعارك والغزوات فانتصر للإنسانية، لم يلتفت إلى نفسه يوماً من الأيّام، فيقول: أنا فعلت كذا وكذا، كان آخرُ نصر دوّنه القُــرْآن فتح مكة كأعظم حدث في التاريخ، وحينها نزل قول الله: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)، وكأن الله يقول: يا محمد النصرُ والتمكينُ والغلبةُ بيد الله، ولنتعلم نحن في واقعنا درساً مهماً، فالتقصيرُ من جانبنا نحن، نستغفر الله وننزهه.
كان اقتصادياً نعم، فحين حصار المدينة المنورة لم يلتفت إلى الروم أَو الفرس؛ ليعينوه أَو يدعموه في مواجهة القبائل العربية؛ لأنه يعلم أن مشروعَه عالمي، وكلُّ هذه القوى لا بُدَّ أن تدين بالولاء للإسلام، وهو لا يريد أن يكون مديناً لأحد، فمشروعه عالمي من يقف وراءه هو اللهُ.
وذلك يوم الأحزاب وهم محاصرون داخل المدينة المنورة، وبعد أن لاحظ الفتور والإرهاق والتعب والخوف في عيون بعض أصحابه عند حفر الخندق، أخذ المعولَ وضرب به صخرةً كانت تعترض طريق الحفر، فتطاير الشررُ منها، فقال: تراءت لي قصور الشام والحير وفارس وصنعاء، وكأنها أنياب الكلاب، كان متفائلاً يمتلك أُفُقاً واسعاً لا يعرف الهزيمة.