جوهرية العلاقة بين الرَّسُــوْل الأعظم واليمنيين
فؤاد العرشي
يتساءلُ الناسُ في هذا العالم وفي هذا الزمان، لماذا نحن اليمنيين أكثرُ المسلمين تفاعلاً واحتفاءً وَتقديساً لذكرى المولد النبوي الشريف، مولدِ سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ-، وللإجابةِ على هذا التساؤل وأمثالِه من التساؤلات، نحتاجُ إلى طرح عدّة أبحاث تاريخية ودينية أشبه برسائل الماجستير والدكتوراه، ومع ذلك لا بُدَّ من أن نتعرّض إلى بعض النقاط والعناوين التي من خلالها نستشف ونتبين ما نعتقده في جوهرية العلاقة بين رَسُــوْل الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ- وبين أهل اليمن، وهي كالتالي:
1- العلم المسبق: قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ)، فمن الآية الكريمة يتضحُ لنا جلياً وبإجماع المفسّرين في كُـلّ عصر أنَّ اللهَ -سُبْحَـانَــهُ وَتَعَالَى- عهد بمهمة التبشير بالرَّسُــوْل الأعظم سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ- إلى كُـلِّ أنبيائه ورسله عبر التاريخ وفي كُـلِّ الكُتُب والديانات السماوية؛ ولذلك تناقلت الشعوبُ والأممُ والحضاراتُ المختلفةُ تلك الإخباريات والأوصاف عن الرَّسُــوْل الخاتم الذي سيظهرُ في آخر الزمان، ويكون على يديه الخلاص للبشرية من الظلم والتسلّط والاستعباد، وإرساء قواعد العدل والإيْمَــان بالإله الواحد، وَتوارث الناسُ تلك البشارات والأخبار، وكان من هذه الحضارات والأمم والشعوب القديمة الحضارة اليمنية والشعب اليمني، وسيتضح أثر هذه البشارات لدى اليمنيين في بقية النقاط.
2- الاصطفاء الإلهي: من المعلوم أنَّ اللهَ -سُبْحَـانَــهُ وَتَعَالَى- اصطفى الأنبياءَ والرسلَ وفضّل بعضهم على بعض، كما هو واضحٌ في آيات القُــرْآن الكريم، قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ)، ولم يكن الاصطفاءُ محصوراً على الأنبياء والرسل فقط، فالله -سُبْحَـانَــهُ وَتَعَالَى- يختار ويهيئ ما يريد، قال تعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) فخاتمُ الأنبياء والمرسلين الذي أمر اللهُ بنصرته والتعهد بذلك، قد اصطفى له أهل اليمن أنصاراً له ولدعوته كما حدث لعيسى بن مريم -عليه السلامُ-.
3- التهيئة الإلهية، قال تعالى: (رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)، فكانت هذه الحادثة هي البداية للارتباط بين القبائل اليمنية وأجداد رَسُــوْل الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ- وتوطّدت بعلاقة المصاهرة لأكثر من مرة بحسب ما ترويه الكتب التاريخية والسير الإخبارية المؤكّـدة.
4- الإعدادُ المبكّر لظهور الرَّسُــوْل الخاتم؛ بسبب ذلك العلم المسبق والبشارات والأوصاف المتناقلة عبر التاريخ، فهذا الملك التبع يصل إلى منطقة يثرب ويترك فيها حامية عبارة عن قبيلتَي الأوس والخزرج، ويأمرهما أن ينصرا الرَّسُــوْل الخاتم وأنَّ هذا المكان سيكون مهاجره وعاصمة دولته وعليهم اتّباعه ونصرته.
5- التسليم والرضا، فقد كان أهلُ اليمن مسلّمين للرَّسُــوْل الخاتم ومتولّين له وطامعين في رضاه ورضا الله -سُبْحَـانَــهُ وَتَعَالَى- بالانطواء تحت لوائه والتسليم لما يأمر به، وكانت هذه الثقافةُ تتناقل عبرَ الأجيال وتحملها جيناتهم الوراثية، فهذا الملك سيف بن ذي يزن يستقبل رؤساءَ وزعماءَ القبائل العربية المهنئين له بانتصاره على الأحباش، فيلتقي بسيدنا عبدالمطلب -عليه السلامُ- ويجري بينهما ذلك الحديثُ الطويلُ الذي ينبئ عن العلم الكبير والدقيق في وصف وأخبار وأحوال سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ- الذي كان يدّخره اليمنيون في كتبهم ويتناقلونه جيلاً بعدَ جيل، ولم يجدوا حرجاً في أن يسلّموا له بالرغم أنهم ملوكُ العرب.
فهذا الملك سيف بن ذي يزن المؤمنُ بالله وبرَسُــوْله يقولُ في بعض الحديثِ لسيدنا عبدالمطلب -عليه السلام-: (إنك يا عبدالمطلب لجده غير كذب، فخرّ عبدالمطلب ساجداً، فقال: ارفع رأسك، ثلج صدرك، وعلا أمرك، وقال أَيْـضاً: فاحتفظ بابنك واحذر عليه اليهودَ فإنهم له أعداء، ولن يجعل الله لهم عليه سبيلاً، واطوِ ما ذكرت لك دون هؤلاء الرهط الذين معك، فإني لست آمن أن تدخلَ لهم النفاسة، من أن تكون لكم الرياسة فيطلبون له الغوائل، وينصبون له الحبائل، فهم فاعلون أَو أبناؤهم، ولولا أني أعلم أنَّ الموتَ مجتاحي قبْلَ مبعثه، لسرت بخيلي ورجلي حتى أصير بيثرب دار مملكته) هذا جزء بسيط من ذلك الحوار الذي يدّلنا على عمق الإيْمَــان والمحبّة لرَسُــوْل الله محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ-.
6- الانتظار بشغف والمسارعة، كان معظمُ اليمنيين ينتظرون مبعثَ رَسُــوْل الرحمة والهدى، فمنهم من هاجرَ إلى الحجازِ كأفرادٍ وَجماعات، مثل أسرة عمّار بن ياسر وغيرها، أمّا من بقوا في ديارهم فظلّوا ينتظرون الأخبارَ والبشارات والأمارات المعروفة لديهم مسبقاً، وما إنْ بُعِثَ رَسُــوْلُ الله حتى التحقوا بركبه المبارك، ومن المعلوم لدى الجميع أنَّ اليمنيين أسلموا برسالةٍ، وهذه هي النتيجةُ الطبيعية لما سبق ذكره في بداية المقال.
7- الدور البارز في نُصرة الإسلام والاستمرار على نهج الرسالة المحمديّة، قال تعالى: (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، فدورُ اليمنيين واضحٌ وجليٌّ ومواقفُهم مع رَسُــوْل الله لا ينكرها أحدٌ، ولو أردنا التحدّثَ عنها سنؤلف مجلّدات، إنما نحن نبيّن جوهرية هذه العلاقة، لقد ذاب اليمنيون حبًّا وإيْمَــاناً وتسليماً في الله عزَّ وجلَّ ورَسُــوْله وآل بيته، ومن منطلق علمهم الإيْمَــاني ومعرفتهم بالسنن الإلهية، فها هم يتولّون اللهَ ورَسُــوْلَه وأعلامَ الهدى من آل بيته، باذلين أنفسَهم وأموالَهم في سبيل الله، آخذين على عاتقهم نصرة دين الله، مقيمين ومعظّمين لشعائر الله، وما هذه الاحتفالاتُ بمولد سيدنا محمد -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ- إلّا نتيجةٌ لذلك العمق الإيْمَــاني المحبّ لله ولدينه ولرَسُــوْله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِــهِ وَسَلَّـمَ-.