الحضورُ الفلسطينيُّ في الوعي اليمني الجديد
صالح أبو عزة*
استُشهِدَ القائدُ الجهاديُّ الكبير بهاء أبو العطا، حيثُ أقدَمَ الكيانُ الإسرائيلي على اغتياله فجر الثاني عشر من نوفمبر، وهو أحدُ كبار قادة سرايا القدس الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، وهو أحدُ ثلاث شخصيات تُمثّل محورَ المقاومة، انبرى إعلامُ الاحتلال الإسرائيلي في الأسابيع القليلة الماضية في الحديث عنها، وعن دورها في المقاومة، ووصفها بأنّها الأخطرُ على أمن الكيان، سماحة السيّد حسن نصر الله، واللواء قاسم سليماني، والقائد الشهيد بهاء أبو العطا.
رَسَمَ بهاء أبو العطا في استشهاده، وما تَبِعَه من مواجهة عسكرية بين سرايا القدس وكيان الاحتلال استمرت لثلاثة أيام على التوالي، خارطةَ المُنتمين إلى جمهور المقاومة، ففي الوقت الذي رأينا فيه تفاعلَ الجمهور العربي في فلسطين واليمن ولبنان وسوريا والعراق والبحرين، رأينا تفاعلاً أقلَّ منه في دولٍ عربيةٍ أخرى، فيما رأينا صمت القبور في دولٍ أخرى كالسعودية والإمارات.
هذا المشهدُ يُثير تساؤلَ المُتابع، لماذا يظهر الاهتمامُ الواضحُ والجليُّ بالقضية الفلسطينية في بلدٍ كاليمن؟!، وتختفي التفاعلاتُ مع الأحداث الفلسطينية في بلدٍ كالسعودية؟! هذا السؤالُ المركزي يمكن الإجابةُ عليه بتوضيح مفاعيل العمل المقاوم منذُ انطلاق الثورة الفلسطينية ضدَّ الاستعمار البريطاني والاحتلال الإسرائيلي، ومن ثَمَّ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979، ونجاح ثورة 21 سبتمبر اليمنية عام 2014، ومقاومة الشعب اليمني لتحالف العدوان السعودي الإماراتي والذي بدأ في مارس من عام 2015، والذي ما زال مستمرّاً، وما تَبِعَه من تمايزٍ داخل الصف العربي والإسلامي، بين الانتماء إلى المعسكر الذي يؤمن بالأمة وهُويتها ووحدتها ووجوب تحرُّرها ونهضتها وتكاتفها للوصول إلى المَنَعَة والاقتدار، وبين الانتماء إلى المعسكر الذي يؤمن بالتبعية للأمريكي والغربي والإسرائيلي.
صحيحٌ أنّ الشعبَ اليمنيَّ من أكثر الشعوب العربية تعاطفاً مع القضية الفلسطينية، إلّا أنَّ صعودَ حركة أنصار الله في اليمن، وقيامَ الثورة اليمانية، شكَّلت علامةً فارقةً في الانتصار اليمني للحقِّ الفلسطيني، ونقلت الدولةَ اليمنيةَ من مربع الخطاب العربي الرسمي إلى مربعٍ آخرَ ينتمي أكثر إلى صوت الشعب العربي اليمني الأصيل الذي يؤمن بأنَّ تحريرَ فلسطين هو واجبٌ عربيٌّ وإسلاميٌّ لا يقتصر على الفلسطينيين وحسب، وأنَّ معركةَ التحرير والاستقلال هي معركةٌ عربية إسلامية في مواجهة الكيان الإسرائيلي، لا معركةٌ فلسطينيةٌ إسرائيليةٌ. وهذا يعني أنَّ اليمنَ في زمن أنصار الله قاربَ بين المستوى الرسمي والمستوى الشعبي في الخطاب والرؤية والتوجُّهات والأمنيات تجاه القضية الفلسطينية، فرأينا على سبيلِ المثال لا الحصر، التفاعلَ اليمني الرسمي على إقدام كيان الاحتلال على اغتيال القائد المقاوم الشهيد بهاء أبو العطا، وصدر لذلك موقفان رسميان أحدُهما من وزارة الإعلام اليمنية عبّر عنها معالي الوزير ضيف الله الشامي، وآخرُ عن المكتب السياسي لأنصار الله، وهذا ما يفتقده الفلسطينيون على العموم، من غيابٍ واضحٍ للمستوى الرسمي العربي في التفاعل الجاد مع الأحداث الفلسطينية، حتى يكاد أنْ لا جهة رسمية أدانت عمليةَ اغتيال الشهيد أبو العطا سوى اليمن!!.
هنالك نقلةٌ نوعيةٌ لليمن؛ بين يمنٍ مرتهنٍ للقرار السعودي الإماراتي، ويعيش في كنف النظام العربي الرسمي، وبين يمنٍ مستقلٍّ يسعى إلى التحرُّر من الهيمنة الأجنبية، والمُشاركة بقوّة في محور المقاومة المناهض للإمبريالية الأمريكية، والصهيونية الإسرائيلية، والرجعية العربية، وأصبح شعارُ حركة أنصار الله «الموت لأمريكا» هو الشعار الرسمي لصنعاء، كما كان شعار «أمريكا الشيطان الأكبر» هو الشعار الرسمي لطهران، وكما هو شعار «إسرائيل عدوة الشعوب» هو الشعار الرسمي للقدس وبيروت. وأصبحت مسيراتُ يوم القدس العالمي هي الأكبر والأضخم في محافظات اليمن كلّ عام، ويخرج ملايينُ اليمنيين فيها انتصاراً للقدس المحتلّة، في صنعاء وذمار وريمة والمحويت والحديدة، مروراً بصعدة وعمران وحجة والجوف، وصولاً إلى إب والبيضاء والضالع. وكان الخطابُ الأخيرُ لقائد الثورة اليمانية السيّد عبد الملك بدر الدين الحوثي، بمناسبة الذكرى العَطِرة بميلاد رسول الله محمد -صلّى اللهُ عليه وآله وسلم – تتويجاً للانتصار للحقِّ الفلسطيني، والعداء حتى النهاية للباطل الإسرائيلي، حيثُ أكّد سماحته أنَّ اليمنَ لن تكون إلّا إلى جانب فلسطين، ولن تقف إلّا في صفوف المقاومة للدفاع عن فلسطين، وهدّد الكيانَ الإسرائيليَّ بأنّه إلى زوالٍ حتمي، وبأنّ الأيادي اليمانية سيكون لها دورها الوازن في ذلك.
تابعَ الإعلامُ الإسرائيليُّ خطابَ السيد عبد الملك الحوثي، وألقى الضوءَ على جوانبَ كثيرة في هذا الخطاب، وصعود حركة أنصار الله البارز في اليمن؛ فالمستوى الإعلامي والأمني والسياسي في الكيان الإسرائيلي بات يُدرك أنه أمام عدوّ جديد في ساحة جديدة، مماثل لحزب الله في لبنان، وحركات المقاومة في فلسطين؛ ولذلك لا يخفى على أحدٍ الدورُ الإسرائيلي في مساندة تحالف العدوان السعودي الإماراتي على اليمن، فخروجُ اليمن من القبضة السعودية إلى رحابة الهُوية العربية المقاومة ما لا تريده واشنطن وتل أبيب وعواصم أدواتهما في المنطقة.
القليل مما ذُكر أعلاه، والكثير مما لم يُذكر، ولا يسعه هذا المقال، قاربَ بلا شكٍ بين الشعبين الفلسطيني واليمني، وأصبح الفلسطينيُّ أمامَ حليف لمقاومته، صادق في انتمائه لجهاده، بل هو شريكٌ أصيلٌ ولاعبٌ أساسيٌّ في محوره، وكما ينظر الشعبُ اليمنيُّ إلى فلسطين بعين المحبَّة والولاء والانتماء، فإنّ الشعبَ الفلسطينيَّ يُبادله هذا الحب بحب، وهذا الولاء بولاء، وهذا الانتماء بانتماء. والأغلبيةُ الساحقةُ من الشعب الفلسطيني تنظر إلى مظلومية الشعب اليمني بكلتا عينيها، ولا تُفرّق بين مظلومية القدس ومظلومية صنعاء، وتجد تشابهاً كبيراً بين عدوّ الشعب الفلسطيني وعدوّ الشعب اليمني، ولا ترى فرقاً بين الاحتلال الإسرائيلي وآلة موته، وبين الرجعية السعودية ناشرة الإرهاب والإجرام في أرجاء اليمن.
ما فرّقته القوى الاستعمارية منذُ مطلع القرن المنصرم بإيجاد الهُويات الوهمية الزائفة والممزقة للأمة العربية، يُعيد محورُ المقاومة تجميعَه بعقدٍ يُمثّل الهُوية العربية الجامعة، والانتصارات المتتالية لجميع تشكيلات محور المقاومة -دولاً وأحزاباً – هي خارطة الطريق للإرادة الشعبية نحو التحرر، ومن ثَمّ النهضة.
إعلامي فلسطيني*