رحــــلةُ الحـيـاة
صفاء فايع
يومٌ ينقضي وآخرُ يولد، ومرضانا على أعتابِ مطار صنعاء يموتون وهم ينتظرون (رحلةَ الحياة)، أطفالٌ ونساءٌ ورجالٌ عاجزون، أخذ منهم المرضُ ما أخذ وأخذ منهم العدوانُ والحصارُ قبلَ ذلك كُـلَّ ما هو جميل في الوجود، كُـلَّ يوم نشاهدُ على شاشةِ التلفاز أحدَهم يحكي لنا قصّةَ أوجاعه وقد تحجّرت غصةُ الآلام في حلقه وترجمت دموعُه كُـلَّ الحكاية، لنقفَ حينها ونحنُ نشعرُ بعمق العجز أمامَ ما يمكننا أن نُقدّمَ لهم.
انطفأت الحياةُ في عيونِهم، وتكسّدت جبالُ الأوجاع والهموم فوقَ قلوبهم النحيلة، منهم من باعَ منزلَه على أملِ أن يستمتعَ ذات مرة بطعم الحياة بدون أن يتذوّقَ ألماً ولو ليومٍ واحدٍ، ومنهم من باع كُـلَّ ما يملكُ بل وتسلّف من أقربائه ومن يعرفوه أضعافَ المبلغ الموجود لديه فقط ليرى ابتسامةَ ابنه الطفل المريض الذي عجزَ العلاجُ في الداخل عن شفائه، ليرى هذه الابتسامة خاليةً من معضلات الوجع، وفي الأخيرِ يموتُ الأملُ في عيني الطفل البائس لينادي أباه ويرجوه بأن يحفرَ له قبرًا..
لقد قتلوا مرضانا ألفَ الفِ قتلةٍ، أُولاها بالحربِ ثم الحصارِ ثم أمانيهم لهم برحلة الحياة هذه، في ذلك الوقت بالتحديد الذي تمرُّ من فوقِ رؤوسهم طائرةُ الأمم المتحدة مقلةً مبعوثها الأممي، لينقلَ القلقَ المتصنع على حالِ اليمن لأسياده، في تلك اللحظة بالذات صرت أجزم بأنها سقطت الإنسانيةُ، كسقوطِ قنينة زجاج رفيعة من أعلى جبلٍ شاهق، لكن صوتَ سقوطها كان مدوياً إثر الهواء والفراغ التي كانت تحملهما، نعم أنا أتحدّث عن الإنسانيةِ المتغنية بعباراتِ الحقوق والحريات الزائفة، بل المنتهية الصلاحية عندَ حدود بوابة اليمن، كان يجبُ علينا أن نُدرِكَ أنها قد سقطت نهائياً منذُ اليوم الأول من العدوان، والتي حُكِم على اليمن حينَها بالإغلاق لمدة خمس سنوات كعقاب للمطالب باستقلاله وحرية قراره، فجعلت من هذا العقاب على شكل إعدام بطيء لشعبٍ بأكملِه.
هي رحلةٌ واحدةٌ كانت جديرةً بتخليص عشرات المرضى من ألآمهم، لكن حقوقَ الإنسان في الأمم المتحدة لم تشأ ذلك، بل شاءت أن تحتفلَ بحقوق اللاإنسانية في 7 من مارس بعيداً عمّا يُسمّى لديها باليمن.
شاءت أن تحتفلَ بإطلاق سراح الطيور المهاجرة في إحدى جزرها، في الوقت نفِسه التي تستطيع أن تفكَّ الحصارَ لن نقولَ عن 27 مليون إنسان، ولكن عن بضع عشرات مرضى وعالقين فقط.
مرّت أَيَّامٌ وانقضت أشهرٌ وصَرَفَ المرضى من المحافظات الأُخرى أموالَهم في فنادقِ العاصمة، ومات خلال شهر واحد منهم 20 مريضاً وهم ينتظرون تلك الرحلة، فهل هي رحلةُ الشتاء والصيف؟!، أم إنها رحلةُ الموت المحتوم التي تخطفُ كُـلَّ يوم أرواحَ أعدادٍ منهم؟!..
نأسف حقًّا على أملِهم بأنها ستكونُ رحلةَ الحياة.