البُـنّ اليمني.. ثروةٌ مهدورةٌ وسوقٌ عالمي واعد … الذهب الأخضر
المسيرة| يحيى قاسم المدار
ما أجملَ أن تبدأَ صباحَك بتناول كوب من البُـنّ اليمني، طعمٌ وذوقٌ ورائحةٌ، ولا أشهى تعديل المزاج وراحة النفس، فهو يمثل عند الكثير من اليمنيين نخب الحياة وروعتها.
عُرف اليمن بأنه الموطن الأصلي للبُنِّ وقيل إنه البلد الوحيد في العالم المنتج والمصدر له استناداً إلى رأي بعض الباحثين، وقيل بأن البُـنّ اكتشف في اليمن عام 500 قبل الميلاد وقد انتشرت زراعته في القرنين الـ15والـ16 الميلادي، وكان يزرع في المنحدرات والمرتفعات ومناطق عدة في اليمن، حيثُ يشغل مساحات واسعة تمتد من محافظة صعدة شمالاً وحتى يافع جنوباً، في مناطق المرتفعات الوسطى والشمالية والجنوبية والجنوبية الشرقية على ارتفاعات تتراوح ما بين 1000 متر إلى أكثر من 2000 متر وبمعدلات أمطار موسمية تتراوح ما بين 1000 ملم سنوياً..
يمتلكُ البُـنّ اليمني خصائصَ فريدةً تميِّزُه عن غيره في مختلف بلدان العالم، وتعود أسباب تميزه لعدة عواملَ كالتركيب الوراثي للأصناف اليمنية والطبوغرافيا والمناخ وغيرها من العوامل التي جعلت اليمنَ يتحكّمُ بإنتاج وتجارة البُـنّ لأكثرَ من ثلاثة قرون، فاليمنيون هم أول من استزرع محصول البن، وأول من حولّه إلى مشروب ساخن وأول من جعله سلعة اقتصادية قابلة للتبادل التجاري بين اليمن والعالم..
كان لازدهار البُـنّ اليمني خلال القرنين الـ17 والـ18 الميلادي أثرٌ إيجابي كبير، ليس فقط على المستوى الاقتصادي في اليمن فحسب، بل على حظ المناطق والبلدان والشركات التي عملت في تجارته، فقد حقّقت تجارته أرباحاً عالية للعديد من المناطق الواقعة على حوض المحيط الهندي والبحر الأحمر، وقد استطاع البُـنّ أن يحقّقَ شهرةً عالميةً في وقت قياسي، كما استمر في الحفاظ على موقعه المتميز من السلع العالمية لمدة طويلة من الزمن رغم الصعوبات الكثيرة التي اعترضت طريقه، إلا أن جَوْدتَه العالية ونكهته المتميزة كانتا كفيلتين ببقائه في موقع الصدارة..
على الصعيد الاقتصادي الداخلي، أصبَحَ البُـنُّ من المحاصيل الرئيسية التي تستوجب دفع الزكاة من المواطنين والضرائب من التجار في السوق الداخلي والجمارك من التجار الذين يعملون في التصدير إلى الخارج وكانت الطريقة المتبعة في تقدير زكاة الحبوب المعروفة بالتثمير أَو الخرص أَو الطيافة أَو الكشف، ومن المؤكّـد أن البُـنّ كان يدر على خزينة الدولة مبالغَ لا يُستهانُ بها..
وعلى الصعيد الاجتماعي والثقافي، فقد رافق ظهورَ البُـنّ في اليمن ظهورُ حركة فكرية وأدبية كبيرة، وظهر البُـنّ في الإنتاج الشعري الإبداعي، خَاصَّةً بعد تحوله إلى قهوة ارتبطت بطقوسِ الحياة اليومية والعُرف الاجتماعي..
اتسمت عمليةُ التسويق بنشاط واسع وزاد عملية تجارته وتصديره إلى البلدان الخارجية عبر عدد من الموانئ، مثل: المخاء، عدن، الحديدة، اللحية وغيرها، لكن شهرته ارتبطت بميناء المخاء الذي كان الميناء الأبرزَ والأولَ في تصدير البُـنّ حتى اقترن اسم البُـنّ باسم الميناء، واشتهر عالمياً باسم موكا كافية أي بُن المخاء، حيثُ شهد هذا الميناء أولَ عملية تصدير للبُـنّ عام 1628م ولاتزال هذه العلامة التجارية مشهورة ومعروفة ومتميزة إلى اليوم..
المعارفُ والخبراتُ اليمنيةُ في زراعة البن:
تحتوي عمليةُ زراعة البُـنّ على العديد من المعارف الموروثة والخبرات التي توارثها الأحفاد عن الأسلاف وهي معارفُ وخبراتٌ تقليديةٌ محليةٌ تعكسُ خصوصيةَ الإرث الثقافي الزراعي اليمني وتحدّد هُـوِيَّته وبصمته وطبيعة فكره وتصوراته وأساليبه الخَاصَّة في التعامل مع شجرة البُـنّ تربية وإنتاجاً وتسويقاً، وتتنوع تلك المعارف والخبرات في إطار المجتمع الزراعي اليمني من منطقة إلى أُخرى باختلاف الخصوصيات المناخية والتضاريسية ومن تلك المعارف والخبرات الآتي:
* التشتيل: وهو عملية إنتاج فسائل غرسات / شتلات صغيرة ليتم غرسها وزراعتها في أراضٍ جديدة.
* التضليل: أي زراعة أشجار البُـنّ جوار الأشجار الكبيرة مثل: الطنب لحمايتها من الشمس وتقليل عملية النتح..
* الري: اتبع اليمنيون طرقاً ووسائلَ مختلفة في الري تبعاً لوفرة المياه أَو شُحتها ففي الوديان التي تكثر فيها الغيول كان السقي يتم عبر السواقي وفي المدرجات كان الري عن طريق المناقلة أَو بالتقطير.
* التسميد: عادة ما كان المزارع اليمني يستخدمُ السمادَ العضوي الذبيل في كُـلّ مزروعاته؛ ولهذا تميزت بجودتها.
* التجفيف: أي تعريض البُـنّ بعد عملية الجني لأشعةِ الشمس مباشرةً على أسطح المنازل وتقليبه حتى يجفَّ.
* الطحن: كانت المطاحن الحجرية اليدوية هي المستخدَمة قديماً لهذا الغرض، إلى أن ظهرت المطاحن الآلية الحديثة.
* أساليب المكافحة: استخدم اليمني القديم عدة وسائل لمكافحة الأخطار التي قد تداهم شجرة البُـنّ وعمد إلى عدد من الطرق الوقائية لتجنب ذلك، ومنها:-
التنظيفُ الدوري للحقل، حرق المخلفات النباتية، التدخين، مبيد النيم الطبيعي.
فوائدُ البن:
يحتوي البُـنّ على الكثير من الفوائد والمنافع الضرورية لجسم الإنسان تذكر منها ما يلي:-
تحسين مستويات الطاقة وزيادة التركيز، يساعدُ على حرق الدهون، تحسين الأداء البدني، تقليل احتمال الإصابة بعدد من الأمراض ومنها:-
السكري من النوع الثاني – الزهايمر – تليف الكبد – مكافحة الاكتئاب – بعض أنواع السرطان – السكتات الدماغية، ويحتوي على الكثير من مضادات الأكسدة وعناصر غذائية أَسَاسية.
أسبابُ تراجع زراعة البن:
وفي وقتنا الراهن، تراجعت مستوياتُ زراعة البُـنّ شأنُه شأنُ الزراعة في اليمن عموماً، خَاصَّة في ظل العدوان الصهيو سعو أمريكي وما خلّفه من تدمير وإحراق للمزارع والمحاصيل الزراعية واستهداف ممنهج وعدواني لكل مجالات الزراعة ومنشآتها ومواطنها، وأصاب محصول البُـنّ ما أصاب بقية المحاصيل الزراعية والوطن بأكمله، فتبدد حلمُ اليمني الأول، وبدأت علاقة أحفاده بشجرة البُـنّ تنقطع، وتعرضت زراعة البُـنّ للإهمال والإعراض، وذلك نتيجة لعوامل مختلفة وكثيرة، منها:-
- 1. شحة المياه وقلة مواردها.
- 2. قلة الوعي الزراعي والاستهانة بالموروث المعرفي التقليدي والخبرات السابقة، مما أَدَّى إلى قلة جودة المنتج.
- 3. غيابُ التسويق المؤسّسي والتصدير، واعتماد عملية التسويق الفردي، الذي لم يستطع الصمود أمام عملية استيراد البُـنّ الخارجي وبيعه بأسعار أقلَّ.
ورغم هذه العوائق إلا أن هناك نماذجَ مشرفةً من الصمود والتحدي والتوجّـه المجتمعي والفردي نحو الزراعة، وهناك قصصُ نجاح أثبتت قدرتها على تجاوز الواقع بكل سلبياته والعدوان بكل وحشيته وأحقاده، وأكّـدت فوز رهانها على أرض الواقع، استثمرت كُـلّ الإمْكَانات المتاحة وجعلت من كُـلّ تحَدٍّ فرصةَ نجاح على عظمة الإنسان اليمني وقدرته على تجاوز الصعاب، في إطار مشروع الرئيس الشهيد صالح الصماد (يدٌ تحمي ويدٌ تبني).
البُنُّ اليمني من منظور “صديق المزارعين”:
ومن أجلِ دعم وإثراء الموضوع أكثرَ، التقينا بالمهندس عادل المطهر -صديق المزارعين- لنسأله عن البُـنّ اليمني من كُـلّ الجوانب، فأجاب:
البُـنُّ اليمني هو هُـوِيَّة يمنية بامتياز وقيمةٌ تاريخية واقتصادية، كما أنه يعتبر السفيرَ الأولَ لليمن إلى الخارج، البُـنُّ اليمني مميَّــزٌ عن غيره ومنافس قوي في القيمة التسويقية والتخزينية والجودة والمنافسة على مستوى العالم، ولكن هناك إشكالاتٍ تواجه المنتج، منها قلة الأمطار؛ لأَنَّه ينتج في مناطق جبلية قليلة الأمطار والغيول..
ويضيف: يعتمد المزارعون على إنتاج وزراعة البُـنّ عن طريق مياه الأمطار وبعض حصاد المياه كما في الحيمة الخارجية، ومن أهم المشاكل التي تواجه المزارعَ هو الري التكميلي، وَأَيْـضاً العمليات الزراعية الأَسَاسية في إعداد الأرض والذبل؛ لأَنَّها تسبب مشاكلَ للشجرة، المفروضُ أن المزارعين يعملون دائرة حول الشجرة تمنعُ وصولَ الماء والرطوبة ويستخدم من خارج الحفرة كُـلّ العمليات الزراعية، أَيْـضاً هناك بعض الإشكالات في الجمع والتجفيف والتقشير والتخزين وهي خبراتٌ اكتسبت عبر الموروثات الشعبيّة التي توارثوها هم عن آبائِهم وأجدادِهم، حيثُ أنه من المفترَضِ من المزارع أن يجمعَ الحبةَ الحمراء لوحدها والوردي لحالها وهكذا، أما الباقي فلا يستعجل عليها ينتظر ليومين أَو أكثر حتى يكتمل نضجها ويجمعها، وبالنسبة للتجفيف هناك طرُقٌ يعتمدها المزارعون، وهي عبر تجفيف البُـنّ فوق سطوح المنازل كما شاهدتها في محافظة ريمة، إذ أن كُـلَّ سطوح المنازل سُخّرت لتجفيف البن، كذلك التخزين يجب أن يكون في مكان مظللٍ بعيد عن كُـلّ الروائح؛ لأَنَّه يكتسب أية رائحة جواره، ويؤكّـد المطهر: البُـنّ نعتبره بنكاً للمزارعين يصرف منه شيكاً في السوق إذَا تم الاهتمامُ به..
أيضاً هناك ما يجبُ أن نعرفَه عن البُـنّ أن هناك أنواعاً كثيرةً من البُـنّ، وكُلُّ منها يتميز عن الآخر في الطعم والجودة والمذاق، منها الخولاني الحرازي العديني وغيرها، لكن كُـلَّ ذلك بالنسبة للخارجي هو الأفضل والأحسن، ومن أهم المشاكل التي تواجه البُـنّ هو اكتساحُ الأراضي بشجرة القات وَأَيْـضاً الحرب الشعواء التي قادتها دولُ الجوار وعلى رأسها السعودية التي وجّهت رصاصةً في صدر المزارع اليمني وساهمت بشكل أَو بآخر في تشجيع زراعة القات لتسويقه داخلياً من خلال تشجيع الاغتراب والعمل في السعودية وكل مَن رجع منها يحمل مسجلة وأشرطة يسمى أحمر عين، أما من واصل الزراعة قالوا هذا قشّام أَو شاقي وراعي وَ… و… وينظر الناس إليه بامتهان، ما سبّب عزوفاً كَبيراً عن الزراعة إلا نحو شجرة القات التي أصبحت السائدةَ في البلاد، وبدأ الناس يزرعونها ويكسبون من ورائها أموالاً كبيرة؛ لأَنَّه لا توجدُ زراعةٌ غيرها أصلاً..
قصةُ نجاح تاجر “الذهب الأخضر”:
بعد الفشل الذريع الذي صاحب إنتاج وتسويق البُـنّ اليمني كان هناك تجربةٌ ناجحة وقصة نجاح يجب على كُـلّ من يهتم بالزراعة وإنتاج البُـنّ أن نقتديَ بتلك التجربة:
قصةُ نجاح المزارع ماجد صالح صالح الرميم من منطقة بيت علل مديرية الحيمة الخارجية عزلة بني سليمان من محافظة صنعاء مواليد العام 1987: بدأنا بتأسيس جمعية الرواد لمنتجي البُـنّ والعسل في 18-1-2013، بدأت الفكرة عندما شاهدنا في الفصول التي ورثناها من أجدادنا بأنه كان لديهم منازلُ من عشرة طابق وهذه المنازل التي أمامكم ما تبقى منها، فقلنا كنا من قرون من الزمن ملوك العالم، وكنا المسيطرين على هذه المناطق التهامية وخلصنا إلى أنهم كان ملوكاً من تجارة البُـنّ اليمني المتخصص، قُمنا بإنشاء جمعية الرواد للمحافظة والرجوع إلى ذلك التراث، من بعدما شاهدنا أن هناك تراجعاً كَبيراً في البُـنّ وتصديره إلى الخارج مع الوقت، فقد أصبح البُـنّ اليمني سيِّءَ الصيت وسمعته مدمرة تماماً؛ لأَنَّ التجار أصبحوا يخلطونه بالبُـنّ الخارجي ومنها الحبشي والبرازيلي وغيرهما، ونحن في هذه الجمعية قمنا بثورة تسويقية وإنتاجية، في التسويق قمنا بإدخال شيء اسمه البُـنّ المتخصص وهو عديني قديم، وقد صدّره الآباء والأجداد إلى العالم وهو أفضل الأنواع من البُـنّ، وهو كان البُـنّ المصدَر إلى العالم، أما غيره من الدوائري والتفاحي فكان لا يصدر أبداً؛ لأَنَّه ضعيف، لا يرقى للتصدير، وبالنسبة للسوق المحلية كان يباع الكيلو البُـنّ في اليمن بمبلغ 1200 ريال لا غير وهو مبلغ زهيد، فكّرنا في ضرورة فتح أسواق جديدة خارجية لكسر هذا السعر الزهيد، وفعلاً قُمنا بمساعدة شخصٍ يمني في جمع المحصول بحسب اللون والنوع وفرزها تماماً، بأن جهزنا أول شُحنة للخارج، حسب الطلب، صدّرناه وحاز على 97 نقطة من التميز وهي قيمة كبيرة أدركنا أن هناك كنزاً كَبيراً نملكه، وهذا شجّعنا على إنشاء جمعيات أُخرى للتصدير والتسويق، حتى سعرُهُ داخلياً وصل سعر الكيلو الأخضر منه إلى 2000 ريال في اليمن، واﻵن نبيعُه للخارج مغلفاً وبجودة عالية وبأسعار قياسية، وأريد أن أوضح أننا لم نستطع توفيرَ ما يتطلبه السوق العالمي والأسواق التي ندخُلُ إليها مثل الصين وغيرها، هناك طلبٌ كبيرٌ جِـدًّا، وهنا أستغلُّها فرصةً وأدعو كافة المزارعين اليمنيين إلى التوجّـه لزراعة البن، ونحن سنساعدهم ومستعدون أن نعلِّمَ الجميعَ الطرُقَ التي يجبُ عليهم اتّباعها في التصدير والتسويق، ونرجع للبُـنّ اليمني هيبتَه ومكانته التي كان عليها منذ قرون..