بوابةُ الدمــوع.. عنــوانُ الصراع القائـم والقـادم (2)
عبــدُالقـــوي السبـــاعي
بالنظر إلى كُلِّ هذه الأهمية الاستراتيجية للبحر الأحمر قديماً وحديثاً على السواء، فقد جلب واقعُه الجغرافي المتاعب والمشاكلَ للـدول المـطـلـة على سواحله أو حتى القريـبـة مـنـه، وإذا كـان هـو طـريـقَ الحـيـاة والـتـجـارة والبترول والثراء للآخرين فقد لعب دورَ طريـق الآلام لأصـحـاب سـواحـلـه، والذي لا شكَّ فيه أن أولئك الذين يملكون السواحلَ المتـحـكـّمـة فـي نـقـاط اختناقه عند المدخل الشمالي خاصّةً مصر، وعند المدخل الجنوبي خاصّةً اليمن، قد تحملوا العبءَ الأكبرَ والأصعبَ من تلك الآلام والمصاعب على مرِّ التاريخ.
وهكذا فإن العُمقَ التاريخيَّ يكشفُ بلا جدلٍ الأهميّةَ الاستراتيجية للبحر الأحمر عبر العصور المتتالية وارتباطه بحركة الصـراع عـنـد مـصـر شمالاً واليمن جنوباً، إن البحرَ الأحمر تحـوّل إلى أداة وصل واتصال مفتوح وبالتالي موضع جذب وموقع صراع لـم تـغـب عـن الإغريق والـرومـان والأوروبيين من بعد تلك الأهميّة الاستراتيجية للبحـر الأحـمـر كـطـريـق ينقل تجارةَ الهند وأفريقيا وبلاد الجزيرة العربية، وكممـر مـلاحـي يـسـهـل تحَرّك الأساطيل وبالتالي يسرع بنشر النفوذ السياسي حول شطآنه الطويلة التي ازدهرت مدنها وموانئها وحضاراتها بفضلِ مرور طريق التجارة الرئيسي في العالم بها أَو عبرها، ولم ينتكس هذا الازدهارُ الذي انتشر عندَ مداخل البحر الأحمر وعلـى سواحله إلّا في نهاية القرن الخامس عشر، عندما اكتشف البرتغاليون طريقَ رأس الرجاء الصالح ليربطَ الغرب بالشرق عن طريقٍ ملاحي مباشر، فعاد البحرُ الأحمر إلى تقوقعه الحضاري وفقد أهميته التجارية والاستراتيجية بالتداعي ليفسحَ طريق الازدهار لحضارات جديدة ومدن جديدة وموانئ جديدة هي حضارات وموانئ الأطلنطي الصاعدة التي بنت تقدّمها الحديث على حساب الحضارات القديمة المنتشرة على سـواحـل الـبـحـريـن الأحـمـر والأبيض المتوسط.
لكن هذا الركودَ الحضاري والتقوقع الاستراتيجـي لـم يـطـل ظـلامـُه على البحرِ الأحمر كشريان وصل قصير وسريع بين الشرق الأفريقي الآسيوي والغرب الأوروبي، فقد كان لصراع القوى بين الإمبراطوريتين الاستعماريتين البريطانية والفرنسية أثـرُه عـلـى إعادة استخدام وازدهـار هـذا الـشـريـان الحيوي، فقد كانت كُـلٌّ منهما تُحاول بسطَ نفوذها في الشرق وقطع طرق تجارة الأُخرى والاستيلاء على ممرات ومعابر هذه التجارة، ففي الوقتِ الذي عادت فيه بريطانيا الإمبراطورية إلى استخدام طريق البحر الأحمر لنقل المسافرين بين جزرها الرئيسية وبين مستعمراتها العظمى في الهند، ركّزت الحملةُ الفرنسيةُ على مصر في عام 1798م على دراسة شق قناة تصل بين البحر الأحمر والبحـر الأبـيـض، ومـنـذُ ذلـك الـوقـت اشـتـعـل الصراعُ بين الدولتين للحصول على امتيـاز شـق هـذه الـقـنـاة حـتـى تحقّق السبقُ لفرنسا بافتتاح القناة في نوفمبر 1869م، وأعاد افتتاحُ قناة السويس للبحر الأحمر تلك الأهميّة الاستراتيجـيـة البالغة كأقصر طريق بين الشرق والغرب مقارنةً بطريق رأس الرجاء الصالح الدائري الطويل، مختصراً بذلك ثلثي المسافة تقريبـاً، كـمـا أعـاد لمـداخـل البحر الشمـالـيـة فـي مـصـر والجـنـوبـيـة عـنـد اليمن أهـمـيـتـهـا الاستراتيجية النادرة ثم أعاد للجميع حدّة صراعات الدول الاستعمارية الكبرى في أواخر القرن التاسع عشر وعنف صراعات القوى العظمى الناشئة بكلِّ ما تعنيه هذه الصراعات من انعكاسات ومخاطر محلية وإقليمية ودولية، وخاصّةً مع نهاية الثلث الأول من القرن العشرين، عندما بدأ البترولُ المكتشف حديثاً آنذاك في إيران والعراق وجزيرة العرب يتدفق بكميات تجارية ضخمة أزاحت عصرَ الفحم من الصناعة الأوروبية ليحلَّ الـسـحـرُ الـبـتـرولـي محلَّه، فبقدر ما جلبت قناةُ السويس و(بوابة الدموع) أَو باب المندب الرخاءَ لتجارة الـعـالـم وحـريـة الحـركـة وانـسـيـابـهـا مـا بين الـشـرق والـغـرب للأساطيل الدولية التجارية والعسكريّة، بقدر ما جلبت المتاعبَ لمصر وللقرن الأفريقي ولليمن الـتـي وقعت جميعُها فريسةً للمطامع الاستعمارية شأنها شأن معظم المناطق الاستراتيجية الأُخرى المتاخمة لمداخل ومخارج البحر الأحمر، فبينما احتلت بريطانيا عدن على الشاطئ الآسيوي الشرقي لبـاب المـنـدب فـي عـام 1839م لتتحـكـّمَ بواسطتها في حرية المرور من وإلى البحر الأحمر عند مـدخـلـه الجـنـوبـي، احتلت فرنسا متقاسمةً مع ايطاليا جيبوتي والصومال الفرنسي في القرن الأفريقي على الساحل الأفريقي الغربي لباب المندب نفسه، لتقفَ في مواجـهـةِ الـتـوسـع والـتـحـكـم البريطاني، وبينما نجحت فرنسا في إقناع خديوي مصر بشقِّ قناة السويس ومن ثم تحكّمت في إدارتها منذُ البداية، سارعت بريطانيا إلى احتلالِ مصر نفسها لتواجه التحكّمَ الفرنسي في حرية المرور من وإلى البحر الأحمر عبر بوابته الشمالية جثمت بريطانيا على مصر، وبنفس الدرجة –إن لم يكن بدرجة أشد– أصبح البحرُ الأحمر بمدخـلَـيـه الشمالي عند السويس والجنوبي عند باب المندب والقرن الأفريقي محورَ صراع القوتين العظميين في عالم القرن العشرين، الولايات المتحـدة الأمريكـيـة والاتّحاد السوفيتـي، فـكـلـتـاهـمـا سعت إلى تـوطيـدِ نـفـوذهـمـا الـسـيـاسـي والاقتصادي والعسكريّ والعقائدي عند نقاط التحكّم فـي مـداخـل الـبـحـر وفي مخارجه، ولعبت سياسةُ الاستقطاب دوراً هامّاً في تبعية هذه الدولة أَو تلك للمعسكر الشرقي أَو الغربي.