المبعوثُ الأُموي
علي المؤيد
الرجلُ الذي يلعَبُ بكُــرةِ الكلمات المثقوبة، الرجلُ الذي يتدحرج مرحلياً ببرود إنجليزي عتيد، الرجل الذي يبدو أن جُلَّ ما يخشاه هو أن يسقُطَ اسمُه سهواً قبل اكتمال سيرته الذاتية المكتظَّة بأنصاف الحلول في كمبوديا وبيشاور وأندونيسيا والمشاريع غير المنجزة في الكونغو وإسبانيا والاتّفاقيات المعاقة في سوريا واليمن، الرجلُ الذي لا يملُّ من تكرار التوصيفات العبثية على غرار “الحرب الأهلية في اليمن”، الرجلُ الذي قد يلهث راكضاً خلفَ فكرته الثلجية التي تذوب -عادة- قبل أن تتجاوزَ سُلَّمَ السفينة الأممية، الرجلُ الذي يتحدَّثُ عن أمن البحر الأحمر حين يفكّر في التهاميين الطيبين، الرجلُ الذي يسافرُ أكثر من طائرات البوينغ دون أن يحرزَ أي تقدم في أي اتّجاه كان، يطير متسلحاً بعزيمة سائقِ بيجو مخضرم يحلُمُ بتدويل الفرزة قبل نزول البقية الباقية من “أطراف النزاع”!.
بماذا يفكر مارتن غريفيث حين يحُثُّ القتلة الإقليميين على دعم عملية السلام، حين ينشغلُ بتكديس وتحليل الاستشارات النسوية والهامشية ويستهلك ثلاثين دقيقةً من صمته في مديح “الكوتا”؟ بماذا يفكر مارتن ليستطيعَ تمريرَ متطلبات السفراء؟ هل ينبغي إظهارُ المزيدِ من التعاطف التكتيكي مع التأكيد على أن “الفساح في القلوب”؟ (سيقولها باللغة الإنجليزية طبعاً).
هذا المبعوثُ الأكروباتي الذي يتوخّى الدقة إذَا تحدث عن السخافات، هو نفسه الذي يغدو كلامُه مطاطياً إذَا تحدث عن تحقيق التطلعات الشعبيّة، وهو الذي لا ينفك واقفاً على حبل الحياد “المتحَرّك”، وهذا بالنسبة له أمر مهم، الحياد أهمّ من معاناة ملايين اليمنيين المحاصرين براً وبحراً وجواً.
مارتن لا يساوم فيما يخُصُّ الحياد، حتّى لو ظل لساعات في مطار صنعاء بانتظار موافقة الرياض على إقلاع الطائرة الأممية الرشيقة.
مارتن لا يساومُ في مسألة الحياد حتى لو سقط الصاروخُ على بُعد ياردات من موكب الـ”أونمها” في مفرق الصليف، حتى لو تمادى المرتزِقةُ في استغلال مرور الموكب الأممي، وأمعنوا في استهداف رجال الجيش واللجان الشعبيّة على خطوط التماس عند عبور مايكل لوليسغارد..
لكن، هل الحياد مقدَّسٌ بالفعل في شرع هذه المنظمة الدولية المترهلة؟
قد يبدو الحياد كمنجز أممي فخم، لكنه في الحقيقة مُجَـرّد نكتة باهتة، وذلك بحسب السلوك الأممي ذي السوابق الدنيئة في البوسنة ورواندا على سبيل المثال لا الحصر.
غريفيث في مقابلته الأخيرة والحصرية مع أخبار الأمم المتحدة كان يمرّر الإجابة من بين أقدام السؤال، محرزاً هدفاً في شباكٍ متعددة، هدفاً يضمن له ما يسُدُّ رمقَ الاستمرارية العَرجاء على طريق بناء السلام المستدام وتدعيم الحوار، مع “لازمة” تتكرّر آلاف المرات ومفادُها التشديد على إبداء حسن النوايا و”الانخراط في التسوية دون شروط مسبقة”، (ومن هذا الكلام)، يتسع الخرقُ على الراقع الأممي الذي يحترف التقافز من هذا المسار المتعثر إلى ذاك الأشد تعثراً، هل يظن مارتن أن المحاصَرين قد يكونون ممتنين للدفء المعنوي الناتج عن جيئة وذهاب الطائرات الأممية من وَإلى مطار صنعاء ولسان حالهم يردّد: ما أضيقَ العيشَ لولا الهامش الأممي؟؟!
المهمُّ لدى العم مارتن أن تبقى كُـلُّ المِـلَـفَّاتِ الإنسانية مفتوحةً مثل جُرحٍ لا يرادُ له أن يندملَ، وأن تظلَّ جُهوزيةُ الحياد عاليةً، وأن تبقى الفضاءات -المعنية وغير المعنية- على استعداد كامل للاحتفاء بكل هذا العجز والصمت الرصين، حتى حين يرهقُه كُـلُّ هذا التعثر الأليف خلف الكواليس، يترك المبعوثُ العجوز أبوابَ الحلول مواربةً، تأكيداً على حيادية “الحياد”، الحياد المنحاز إلى الذبول الذي يرتدي ربطةَ عنق أنيقة (ومحايدة في انسدالها)، ويبدو كمَن يتقدَّمُ خطوتين إلى الأمام، كمَن يميلُ بكفه ليطرقَ بابَ الحَـلِّ السياسيّ الشامل؛ ليختفيَ بسرعة البرق على طريقة الأطفال الأشقياء والجرس.
وعلى كُـلِّ حال السياسات كُلُّها مزعجة وخطيرة وعبثية، سواءٌ أكانت على طريقة معاهد السلام أَو بحسبِ منهجية الدبلوماسية الوقائية أَو الوقاية الدبلوماسية، مع الأخذ في الاعتبار النزوات دائمة العضوية ورغبات الدول الأعضاء واقتصادات الحرب الشمطاء، وكذلك ذكريات المبعوث الخاص الواثق من قدرته على الحياد حتى آخر بند في أي اتّفاق يحلمُ أن سوف يتم التوقيعُ عليه ولو مع إيقافِ التنفيذ، إيقاف تنفيذ كُـلِّ ما يعكر صفوَ القيم الأممية “النبيلة”.
وعلى هذا المنوالِ، يثبُ المبعوثُ من مِـلَـفٍّ لآخر دون أن يسهمَ فعلياً في تحقيق أي تقدُّم ملموس لا في مِـلَـفِّ الأسرى ولا المِـلَـفِّ الاقتصادي وغيره، دون أن يهتمَّ -بشكل ملموس- بالتخفيف من المعاناة الإنسانية في الحديدة ولو بنصفِ مقدارِ اهتمامِه بصحة وسلامة وعافية البرنامج الإنساني “الأممي” في الحديدة، وقطعاً ليس وارداً فهمُ هذا الحديث على أنه استجداءٌ أَو مناشدةٌ أَو محاولةٌ فرديةٌ لاستجلاب الاهتمام الأممي الذي تكاثرت مكاتبُه وبعثاتُه ومنظماته والوحدات الفنية والأمنية والطبية واللوجستية والحركات والسكنات ذات العلاقة.
وفي مقابلِ كُـلِّ هذا الزحام الأممي ثَـمَّة قافلةٌ إغاثيةٌ يتيمةٌ حاولت -على استحياء- الاقترابَ من مدينة الدريهمي، وفشلت في الوقت الذي تنمو فيه المكاتبُ والبعثاتُ والبرامجُ الأممية فقط، مثل أشجار التين الشوكي العصية على الاقتلاع، شبكة تتناسلُ فيها المتاهاتُ وتتداخلُ ممراتُها الشائكة ببعضها، وبعد حين، لا أحد (ولا حتى الحياد) يمكنُ أن يفُكَّ طلاسمَ هذا المسارَ التفاوضيَّ والممرَّ الإنساني المستحيل، هذا التيه المؤطَّر بالأوتشا والأونمها واليونفيم وبرامج النماء والغذاء والعناء والعراء والهُراء والبغاء والغباء، لكن وللإنصاف، وما دامت مثلُ أشجار التين الشوكي فقد تتوفر إمْكَانيةُ الحصول على بضعِ سعرات حرارية مؤطرة بباقة من الأشواك الصغيرة مرةً في كُـلّ عام.