في خِطابِ الهُوية الإيمـانية: لا قبولَ باستقلال منقوص
بندر الهتار
انتصارُ اليمن وهزيمةُ تحالف العدوان، حقيقةٌ لا شكَّ فيها، وقناعةٌ مترسخةٌ تعبر عنها التصريحات الغربية بالتأكيد على الحلِّ السياسيّ واستحالة الحسم العسكريّ، تنسحب هذه القناعةُ أَيْـضاً إلى السعودية والإمارات.
هذا يعني بكلِّ وضوح أن اليمنَ قد ضمن التحرّرَ من الهيمنة العسكريّة، وبالتالي السياسيّة والاقتصادية للمحور الذي تقوده واشنطن، وليست إلّا مسألة وقت، وبالنظر إلى ما سُخّر لاحتلال كُـلِّ اليمن من قوة عسكريّة ومالية وسياسيّة وإعلامية، فإن فشلَ هذا الرهان أشبه ما يكون بالمعجزة، ولا مبالغةَ في الوصف، وهنا يحسب للسيد عبدالملك الحوثي أنه قائدُ الانتصار، غير أن هذا القائدَ وفي الوقت يعتقد الناسُ أن أوانَ قطف الثمرة قد حان، يظهر في كلمة مفصلية ليعلن بأنَّ اليمنَ لن يقبلَ باستقلال منقوص، وبأن المعركةَ لا تزال مستمرّةً، ولا تقل قداسةً عن السنوات الخمس الماضية، إنها حربُ الحفاظ على الهُوية الإيْمَـانية..
يُدرك السيّدُ القائدُ ومن تجارب الماضي أن نجاحَ الشعوب في الاستقلال من الهيمنة العسكريّة قد يُخضعها لهيمنة فكرية أسوأ من العسكريّة نفسِها؛ لأَنَّها تجعلُ الشعوبَ -بسبب انعدامِ الوعي- متبلدةً وعاجزةً عن فعل أيِّ شيء وكأنها لا ترى أمامها ساحةَ حرب حتى تستعدّ لخوض غمارها، وهذا يُسهل عمليةَ ترويضها والتحكّم بمصيرها، وذلك بالضبط ما حصل عقب حروب الاستقلال التي خاضتها الشعوبُ العربية خلال القرن الماضي، حيث انتقلت البلدانُ من حقبة استعمارية إلى أُخرى أخطر وأفتك، لكلفتها الزهيدة على أعدائنا، وثمنها الباهظ الذي دفعناه ولا نزال.
من الملاحظِ في حروبِ العقود الماضية، أن العربَ في أفضل حالاتهم قد اقتصرت استراتيجيتهم على كيفية مواجهة الآلة العسكريّة، ولم يتجاوزوها إلى مواجهةِ الحرب الفكرية والحفاظ على هُـوِيَّتهم، وقبل أن ينهزموا عسكريًّا كانوا قد هُزموا معنوياً ونفسياً؛ بسبَبِ البعد عن هذه الهُوية، ليُخضعوا بذلك أنفسهم لأسوأ هيمنةٍ على مرِّ التاريخ، من مفارقاتها المُذِلة أن يتدخل سفراءُ واشنطن في رسم سياسة وتوجّـه دولهم وشعوبهم.
وكي لا يكون هناك لبسٌ في حقيقة الهُوية الإيْمَـانية، فقد عمل السيّدُ عبدالملك على الفصل بينها وبين تلك الهُوية الشكلية التي شُوّهت من قبل من يدّعون التمسّكَ بها، وهذا ظهر في الحركات التفكيرية، أَو في أولئك الذين أغمضوا أعينَهم عن رؤية علوم الحياة وظلّوا قروناً من الزمن يتصارعون حولَ مسائل الطهارة والوضوء وأغرقوا الناسَ في رُكامٍ من كتب الخلاف والجدال العقيم، ليؤكّـد السيّدُ أن الهُويةَ الحقيقيةَ تلتزم القيم الدينية التي رسمها اللهُ -سُبْحَانَـهُ وَتَعَالَى-، وهذه القيمُ تُوجب العملَ في مسار التطوير العلمي والتقني بمختلف المجالات الحضارية لتحقيق نهضة متسارعة تلحق بركب من سبقونا في هذا المجال، وألا تبقى الشعوبُ مُجَـرّدَ أُمَّــةٍ متلقيةٍ لأفكار الغرب، فأولئك لا يُصدّرون سوى أوبئتهم ونفاياتهم، وفي الوقتِ نفسه يحتكرون العلمَ والقدرات، بل ويعملون على أن ينتزعوا من دولنا الجزءَ اليسيرَ من ذلك.
من المفارقاتِ التي لفت إليها السيّدُ القائد، هو حديثُه عن النموذج الصيني، فالصينُ كما هو معلوم قد نالت استقلالَها في الحقبة ذاتها التي نالت بها معظمُ الدول العربية استقلالَها، لكنّها وبعكس العرب تمثل اليوم ثاني أكبر اقتصاد في العالم وتنافس لتصبح القوة الأولى عسكريًّا واقتصادياً؛ ولذلك أسبابه الكثيرة، أهمُّها اعتزازُ الصينيين بهُـوِيَّتهم، وأقرب ما يُدلل على ذلك، هو موقفُهم الصلب لمنع اختراق مجتمعهم حين لجأوا إلى ابتكارِ وسائل للتواصل الاجتماعي بديلة عن الوسائل الأمريكية.
لتعزيز ذلك، يُمكن الاستدلالُ بجزءٍ مما كتبَه قبلَ بضعة أشهر في مجلة نيوزويك الأمريكية “نيوت غينغرش” وهو رئيسٌ سابقٌ للكونغرس الأمريكي، حيثُ يقول: “يجبُ أن نغيّرَ وجهة نظرنا عن الصين، يجب أن نقبلَ أن الصينيين لديهم التزام عميق أن يكونوا صينيين وليس أن يكونوا غربيين”، ويضيف: “هم ليسوا مهتمين بالانفتاح على الطريقة الأمريكية، ولا بمسار سياسيّ بعيداً عن نظامهم الحالي”، ويقول غينغرش أَيْـضاً: إن الأمريكيين اعتقدوا -مخطئين- أن استقبالَ عشرات الآلاف من الطلبة الصينيين في الجامعات الأمريكية سينقلُ “عدوى الحرية” لأولئك الطلاب.
بالنظرِ إلى النموذج الصيني، فإن أكثرَ ما عزّز قدرتهم على الالتزام بهُـوِيَّتهم هو الوعي بتلك الهُوية، بدءاً من النخب وانتهاء بعامة الناس؛ لذلك كان خطابُ السيّد عبدالملك أمامَ جمع من العلماء والمسؤولين وبعض النخب الفكرية والسياسيّة والإعلامية والشخصيات الاجتماعية؛ كي يضعَهم أمامَ مسؤولية العمل بمختلف الوسائل لتعزيز الهُوية الإيْمَـانية للشعب اليمني، كمنطلقٍ نحوَ نهضة حقيقية يمكن أن تشكل نموذجاً يُحتذى به في العالم الإسلامي ككل.
في أبعادِ الخطاب، لا يقتصر حديثُ السيّد عبدالملك على اليمن فحسب، فالمطلوبُ هو تعزيزُ الهُوية الإيْمَـانية في مختلف الأقطار الإسلامية؛ لأَنَّ ذلك مرتبطٌ بتقدّمها ومصيرها ومستقبلها؛ باعتبارها تواجه أكبر التحديات على الإطلاق، ومن الصدف الحسنة أن تتزامنَ كلمةُ السيّد القائد مع انطلاق قمة كوالالمبور التي تناقشُ قضايا العالم الإسلامي، وفيما لو نجحت هذه القمةُ في الدفع نحو حلحلة جزئية لبعض المشاكل، فإنها ستكون خطوةً في مسار الألف ميل، لكن لنا أن نتساءلَ، ماذا لو استندت هذه الدولُ على ترسيخ الهُوية الإيْمَـانية كقاعدة سميكة لإنجاح مسارها في التحرّر من هيمنة أعدائها؟!.
قد يكون مستغرباً الحديثُ عن إعادة الدول الإسلامية إلى الهُوية التي فقدتها بحكم هيمنة الاستعمار، لكننا أمامَ مرحلةٍ مفصلية نلحظُ فيها صراعَ القوى الكبرى على عرش سيادة العالم، وكيف بدأ الغربُ ينظر بتوجّس إلى صعود الصين كقوة بديلة عن أمريكا، وهنا يحقُّ للعالم الإسلامي أن يستفيدَ من هذه الصراعات لتأهيل نفسه للوصول إلى المقعد المتقدّم، وهذا أمرٌ ممكن وأسبابه متوافرة.