في قراءةٍ حول خطاب السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي عن الهُـوية الإيمانية: الخاصُّ لدى الشعوبِ وتجريفُ العولمة الأمريكية
أنس القاضي
كلمةُ السيّد قائدِ الثورة الأخيرة كانت عميقةً تجاوزت الوعظَ الدينيَّ المعهودَ في خطب الجمعة، واقتربت من التحليل السيسيولوجي لمسألة أنماط الثقافات والملامح الخَاصَّة في هُويات الشَعوب وما تمثله هذه الطرزُ الثقافيةُ من قوةٍ دافعةٍ في حركة الحاضر وصيانته، وما لها من قوة إلزامية نحو الفرد والمجتمع كموجهٍ للسلوك الإنساني وناظم له اكتسبته؛ بفعلِ تراكم تاريخي طويل، وقد تكون هذه العاداتُ ونماذج السلوك والتقاليد والتعاليم التي لها هذه الإلزامية سلبيةً أَو إيجابيةً.
في مواجهةِ هذا التنوع والتعدّد الثقافي والفريد والخاص في حياة الشعوب، تأتي هجمةُ العولمة الغربية لمحو كُـلّ ما هو خاص ومتفرّد لدى الشعوب وطبعه بالطابع الكوني (أمركة العالم)، فما وصلته الولايات المتحدة والفلسفة اللبرالية الحاكمة فيها هو “نهاية التاريخ” كما يُتحدّث منظروهم، وهو معيارُ التقدّم الإنساني كما يفترضون، وهذا الأمرُ غيرُ صحيحٍ، فهناك تناقُضٌ في الغرب بين التقدّم العلمي التكنيكي الجاري وبين التقدّم الأخلاقي والتطوّر الإنساني، وعلى سبيلِ المثال فإنَّ الشذوذَ الجنسيَّ واستساغة مشاهدة المصارعات الدموية الرجالية والنسائية ومقاطع اغتصاب الأطفال وقتلهم كما كان عليه البرنامج الإجرامي الشهير “الأرنب السيء”، مختلف هذه السلوكيات الشاذة، هي نتيجة تقهقرٍ أخلاقيٍّ وتدنس النفس، فالإنسانُ الغربيُّ وبشكل أدق الرأسمالي المترف بعد أن أشبع كُـلَّ احتياجاته الطبيعية بطريقة حيوانية، تتخلّق لديه احتياجاتٌ شاذةٌ فيسعى لإشباعها، إذ يجهلُ كنهَ الوجود وسؤال الوجود ومسؤولية المال الذي يملكه ودوره في الحياة.
الحديثُ عن ضرورة المقاومة الثقافية للعولمة لطالما طُرحت من قبل مختلف التيارات الفكرية، سواءً القومية أَو الاشتراكية أَو التيارات الإسلامية الإخوانية السلفية، وفيما هذه الأخيرة كانت تضعُ أمام المجتمع مهمةَ العودة إلى القرن الأول للهجرة لصيانته من المد الثقافي التغريبي، وهوَ أمرٌ غير مُمكن واقعياً، فإن المميّزَ في كلمة خطاب السيّد وهو يدعو إلى مواجهة المدِّ الثقافي التغريبي ومواجهته، هو طرح مسألة تجاوزه إلى ما هو أرقى منه وأكثر استجابة لاحتياجات شعبنا؛ من أجل التقدم وبناء نموذج، وهي الفكرةُ التي طرحتها في خطاب المراكز الصيفية فالمؤكّـد أن الغَربَ لا يُعطي لمجتمعاتنا المعارف العلمية والتقانة الحديثة الذي يملكها والتي تؤهل شعوبَنا للنهوض والمنافسة، إنما يُسوّق له القيمَ الاستهلاكيةَ وكلَّ ما يُمثّل قشوراً للحضارة الغربية ومخلفات لها، في سعيٍ غربي عبر هذه الأساليب المعنوية في السيطرة على الأمزجة والتصورات والتطلعات لسائر المجتمعات؛ تمهيداً لعملية الهيمنة الملموسة الاحتلال والسيطرة المباشرة سياسياً واقتصادياً إن لم يكن عسكريًّا، وقد ركّز قائدُ الثورة على النموذج الشرقي وخَاصَّة الصيني، مبيناً كيف يقاومُ الصينيون هذه التأثيرات الأمريكية بالاستناد إلى ثقافتهم الخَاصَّة، (تعاليم الكنفوشية والبوذية الإنسانيتين).
تطرّق السيّدُ إلى التجربة العراقية في جزئية اغتيال العلماء من قبل أمريكا التي تدّعي العطاء التقدمي للإنسانية، تُمثّل هذه التجربة شاهداً تاريخياً بين تناقض دعوات الغرب وواقعه، فالغزوُ الأمريكيُّ على العراق الذي جاء؛ من أجلِ منحه “الديمقراطية والحريّة وحقوق الإنسان” كما كانوا يدعون، جاء لهدم كُـلِّ المكتسبات التقدّمية في العراق من علوم ومعارف وقاعدة إنتاج صناعية متطورة، ولم يُعطه من الوعود إلّا قشرةَ الديمقراطية المتمثّلة في العملية الانتخابية ووفق دستور “بريمر” الذي صاغه الحاكمُ العسكريُّ الأمريكيُّ بشكل محاصصة طائفية وعرقية، تتفجرُ مخرجاتُه اليومَ في الشارع العراقي.
الجديرُ بالذكر أن الصينَ الذي ذكرها السيّدُ في كلمته، لها حساسية ثقافية ليس فقط مع الغرب الأمريكي والأوربي، بل حتى مع الشرق الذي تنتمي إليه، حتى مع انتمائها للمعسكر الاشتراكي، وللماركسية كمنهج نظري تسترشدُ به من بعد انتصار الثورة الماوية في خمسينيات القرن الماضي، إلّا أنها منذُ البداية أظهرت تمايزاً عن التجربة السوفياتية ورفضت أن تُحسب كتجربة اشتراكية تابعة للاتّحاد السوفياتي، وتحدّثت عن ما اسمته بناء “التجربة الاشتراكية في ضوء الخصائص الوطنية الصينية”، وهذا التعميمُ كان آنذاك يُعتبر من وجهة نظر السوفيات ارتداداً عن الأممية.