بوابةُ الدمــوع.. عنــوانُ الصراع القائـم والقـادم (3)
عبــدُالقـــوي السبـــاعي
وإذا كانت القوّتان العظميان قد اتفقتا على تهدئةِ المواجهة بينهما فـي أوروبا، فقد كانت ثرواتُ المواد الخام ومصادر الطاقة والمعابر الهامة والمراكز الاستراتيجية هي التي جذبت صراعهما إلى الوطن العربي والقرن الأفريقي، فشهدت المنطقتان –وإن كنا نعتبرهما منطقةً مـتـكـامـلـةً هنا- خلال العقد الأخير أعنفَ مراحل هذا الصراع الذي تمثّل في الـتـدخـلات المباشـرة وغـيـر المبـاشـرة، مـثـلـمـا مثـل فـي الـغـزو الـعسكريّ والـسياسيّ والاقتصادي والثقافي، كما شهدت أقسى «تجارب الحروب المحدودة» منذُ انتهاء عملية فيتنام في الهند الصينية التي كانت تسحب بساط الأفضلية أحياناً، وَإذَا كانت آثار الانسحاب الأمريكي المهزوم من فيتنام قد تركت جروحاً غائرةً في الضمير والفكر والسلوك الأمريكي وقلـصـت إلى حَـدّ كـبـيـر مـن التدخل العسكريّ أَو الـتـورط المـبـاشـر لأمريكـا فـي مـنـاطـق كـثـيـرة، فَإنَّ الاستراتيجيةَ السوفيتية كانت على العكس من ذلك، إذ أنها تميّزت بسرعة التلبية وخفة الحركة ومداومة النشاط لمسانـدة أصـدقـائـهـا والـتـدخـل إلى جانبهم من كوبا غرباً إلى فيتنام شرقـاً مـروراً بـأثـيـوبـيـا وأفـغـانـسـتـان فـي الوسط بالطبع.
ونتيجةً لذلك سجل السوفييت نقاط تقدّم كثيرة على خريـطـة الـصـراع الدولي خلال العقـد الأخير فـي مـواجـهـة الـتـردّد والحـذر وبـطء الحـركـة والتراجع الأمريكي، إلّا أنه عندما اقترب الخطرُ السوفيتي من مركز عصب الاستراتيجيـة الأمريكية –وأعني حقول البترول الهائلة في الجزيرة العربية والخليج وإيران– بدأت هذه الاستراتيجية تكشر عن أنيابها وتستعيد نشاطها المضاد في محاولة لوقف التقدم السوفيتي الخطر، وبدأت أمريكـا تـعـيـد تـرتـيـب خططها، فظهرت خطةُ الانتشار السريع كجانب من الترتيبات وصولاً إلى تهيئة المسرح السياسيّ فـي الـشـرق الأوسط ونقل مركز الصراع وبؤرة التوتر من الـشـمـال إلى الجـنـوب، ونـعـنـي بـذلـك تهدئة الصراع العربي الإسرائيلي الذي يشد الكثير من الانتباه الأمريكي ويستنزف الكثير من الحرص والجهد الأمريكي أَيْـضاً لتركيز الانتباه والجهد والحرص حول حقول النفط في الجزيرة والخـلـيـج وإيران، حَيْــثُ كان الجميعُ يتوقع حدوث «مواجهة ما» محتملة بين الأمريكي والأوروبي الذين يعضون بالنواجذ على مصادر البترول هذه وعلى طرق مروره وبين السوفييت الذين يقتربون رويداً رويداً من هذه المصادر وَيضيقون الخناقَ على معابر تدفقه إلى الغرب الأوروبي الأمريكي بوجه خاص.
كلاهما كان يبني لنفسه مراكزَ وثوب وقواعد عسكريّة وسياسيّة وعقائدية، كلاهما يدفع بأساطيله إلى المياه المحيطة عبر البحر الأحمر وبحر العرب والمحيط الهندي ومن مضايق باب المندب وموزمبيق غرباً إلى مضايق ملقا شرقاً.
ومن ثم يصبح الوصولُ إلى مرحلة الصدام المباشر احتمالاً قائماً إذَا ما تهدّدت المصالح الاستراتيجية المباشرة لأيٍّ منهما، لكن هناك احتمالٌ آخرُ وهو الذي ساد تلك الفترة هي استمرار حالة المواجهة بلا مصادمة، حالة مبارزة علـى الـبـعـد إن جاز التعبير، يلعب فيها شبح الردع العسكريّ المباشر دوره وإن كان «الردع السيكولوجي» هو الذي يلعب الدور الأقوى والأكبر تأثيـراً وتـخـويـفـاً ذلـك الردع السيكولوجي القائم على وجود القوى العسكريّـة المـتـزايـدة والـنـفـوذ السياسيّ العميق والسيطرة الاقتصادية الـفـعـالـة والـتـغـلـغـل الأيـديـولـوجـي النشط.
في هذا النطاق يجب أن نلقيَ نظرة شاملة عميقة على حركة الصـراع الدولي والإقليمي حولنا من منظور واضحِ المعالم ينقسم إلى قسمين:
١ – الصراع العربي الإسرائيلي الذي ما زال يُشكّل عاملَ التوتر الأَسَاسي في المنطقة –وخصوصاً محور المقاومة– بدءاً من سواحل الـبـحـر الأبـيـض المتـوسـط شـمـالاً إلى بوابة الدموع ونـتـوء القرن الأفريقي جنوباً، عابراً البحرَ الأحمر فخليج عدن ومطلًّا على حقـول الـنـفـط في الخليج.
٢ – الصراع المحتدم الآن بين القوى العظمى المتهالكة والقوى الجديدة –التي تحاول أن تفرضَ نفسها بقوة على خارطة الريادة العالمية– على مصادر وحقول البترول العربي والإيراني وعلى التحكّم فـي مـراكـز نـقـلـه وطـرق عـبـوره، بما فـيـهـا الممرات والمضايق الاستراتيجية الحاكمة والمتحكـمـة، وهـو الـصـراع الـذي يعدله المسرح الدولي الآن ليطغى على ما سواه، ومن غير أن ندرسَ جذور حركة الصراعات الدائرة ونتعمق في أسبابها ونبحث في علاقة الربط بينها، فَإنَّنا لن نستطيعَ إلقـاءَ مـثـل تـلـك الـنـظـرة الشاملة العميقة على خريطة الموقف بكل ملابساته الحالـيـة واحـتـمـالا تـه القادمة.
وهي محاولةٌ شيقةٌ أن نسبحَ بين تيارات الصراع المتلاطمة من شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمالاً إلى بوابة الدموع وَالمحيـط الـهـنـدي جنوباً، واجتهدنا أن نلقي بتلك النظرة المتأنية على خريطة الصراع حولنا، وحسبنا المحاولة في حَـدِّ ذاتها… يتبع.