بوابةُ الدمــوع.. عنــوانُ الصراع القائـم والقـادم (5)
عبــدُالقـــوي السبـــاعي
الأمرُ الذي أربك المعسكرَ الغربيَّ، إذ لم يأخذ في حُسبانه أن حدوثَ أي تغيير في موازين القوى الإقليمية المطلة على المداخل الجنوبية للبحر الأحمر وعلى مناطق إنتاج البترول وطرق مروره، سيعملُ على تغييرٍ في موازين قوى التحالفات الإقليمية الدولية، فقد تمركزت القواتً السوفيتية والكوبية عند أقرب نقطة استراتيجية، تُطل على مناطق البترول وطرق مروره، والتي لم تصل إليها موسكو في تاريخها القديم والحديث، الأمر الذي أثار الفزعَ الحـقـيـقـي لأول مـرة بـشـكـل عـمـلـي عـنـد حلفاء الدول العربية المنتجة للبترول؛ نتيجةَ إحساسها باقتراب ما سُمّي (بالخطر الأحمر على الذهب الأسود)، لجأ الغربُ إلى تخفيف مستوى الصراع العربي الإسرائيلي، فمع بدايةِ العقد (1977-1967م)، الذي شهدت هزيمة العرب القاسـيـة أمام إسرائيل، فقد شهد منتصفه تـقـريـبـاً أول نـصـر يـحـفـظ للـعـرب ماء وجهها ضـد إسرائيل في عام 1973م، حَيْــثُ كان من أبرز عمليات هذه الحرب، عمليةُ إغلاق مضيق باب المندب في وجه الملاحة الإسرائيلية.
فإذا كانت حـربُ 1967م قد أطلقت يد الاجتياح الإسرائيلـي وأوصـلـتـهـا عملياً إلى السباحة بحرية مطلقة في خليج العقبة والبحر الأحمر عبر باب المندب وصولاً إلى المحيط الهندي، فَإنَّ إغلاقَ مضيق باب المندب في 73م قد أوقف فكرةَ الاجتياح المطلق في أدمغة العسكريّة الإسرائيلية، الأمـر الذي فرض عليهم إعادة النظر في نظرياتهم السياسيّة والعسكريّة، وكـان من أهمِّ ما تنبهوا إليه في تلك الحقبة:
١ – ضرورة توطيد علاقاتهم بأثيوبيـا لـلاستفادة إلى أقـصـى حَـدٍّ مـن التسهيلات الممنوحة لهم في جزر الساحل الإرتيري، خَاصَّة أرخبيل دهلـك؛ لمنع السيطرة المطلقة للعرب على المداخل الجنوبية للبحر الأحمر.
٢ – محاربة فكرة «إقليميـة البحر، بـحـيـرة عـربـيـة» وبالتالي تجنيد المنظومة الدولية، خَاصَّة الولايات المتحـدة الأمريكـيـة، لمـقـاومـة إمْكَانية التوحد العربي للسيطرة على مياه البحر الأحمر، وبرغم وجود خلافات عربية عديدة بين الدول العربية بصفة عامة والدول العربية المطلة على البحر الأحمر بصفة خَاصَّة مثل منازعات شطري اليمن على السواحل والجزر المتناثرة في مدخل البحر، فَإنَّ حالةً من اليقظة العربية المفاجئة اجتاحت العربَ فنبهـتـهـم إلى مـا يـجـري حـولـَهـم خَاصَّة الصراعات الدائرة للـسـيـطـرة عـلـى الـبـحـر الأحمر، لـيـس فـقـط للأسباب المـعـروفـة أَو فـقـط لحـمـايـة الـبـتـرول وتـدفـقـه عـبـر بواباته الاستراتيجية بل لظهور عـنـصـر جـديـد هـو إمْكَانـيـة اسـتـغـلال الـثـروات الاقتصادية الهائلة الرابضة في أعماق مياه البحر الأحمر وهي الـثـرواتُ التي تأكّـد وجودُها، فوسطَ هذا الخضم المزدحم بالصراعات والأطماع الدولية أخذ اليمنُ المبادرة للدعوة إلى مؤتمر يضم الدول العربية الواقعة على البحر الأحمر، وهو المؤتمرُ الذي عُقد بمدينة تعز، يوم الأحد، 20 مارس، 1977م، أي قبل سبعة أشهر من اغتيال الرئيس الحمدي، والذي حضر فيه كلٌّ من الشهيد الرئيس إبراهيم الحمدي، والشهيد الرئيس سالم ربيع علي، والرئيس السوداني جعفر النميري، والرئيس الصومالي محمد سياد بري، المؤتمر الذي تم تبنيه والدعوة إليه من قبل الحمدي وسالمين، وكان الغرضُ منه إعلانَ البحر الأحمر بحيرةً عربيةً داخليةً وليس لغيرهم الحقُّ إلّا بالمرور الآمن، وكلُّ الدول التي تطل عليه عربية، والتأكيد على أن مضيقَ باب المندب مضيقٌ يمني تابع لليمن، حَيْــثُ يقع ضمن الجرف القاري لليمن مع التأكيد على أنه ممر مائي دولي يحقُّ للعالم استخدامه، إلّا أن لليمن الحقَّ في إغلاقه والسيطرة عليه خلال الحروب وتهديد أمن اليمن أَو أية دولة عربية، بل تم التفكيرُ بفرض رسوم على عبور المضيق كما يحصل مع قناة السويس.
وكانت تجربةُ إغلاق مضيق باب المندب من قبل اليمن التي سمحت للسفن الحربية المصرية بإغلاقه أمام إسرائيل وإغراق الناقلة كورال سي، ما تزال حاضرةً في ذهن القوى العظمى في حينه، فانزعجت هذه الدولُ من عقد هذا المؤتمر واعتبرتهُ تمرّداً من اليمن وشقًّا ليد الطاعة.
وكان عقدُ هذا المؤتمر وفكرته بمثابة إعلان تمرّد وتحدٍّ من قبل سالمين والحمدي لكلِّ القوى الكبيرة سواءً الإقليمية أَو الدولية، فأَدَّى ذلك إلى غضب القوى الكبرى من الدور الصاعد والمتحدّي لليمن، فقرّرت التعجيلَ باغتيال الشهيدين، ابتداءً بالحمدي أولاً عبر أدواتها القذرة في الخارج وأياديها وعملائها في الداخل الذين ارتكبوا بحماقةٍ وجرمٍ شديدٍ جريمةَ اغتيال الحمدي ثم بعده سالمين، بينما تغيبت عن المؤتمر أهمُّ الدول العربية المطلة على البحر، وأعني مصر والسعوديّة بالإضافةً إلى الأردن، وهو الغيابُ الذي أفقد المؤتمرَ أهـمـيـتـه المقصودة وأضعف بالتالي نتائجَه المتوقعة؛ ولهذا السبب انتهى المؤتمرُ إلى مجرّد بيان صحفي معمم.
ورغم أنها لم تكن المحاولة الأولى لتحقيق استراتيجيـة عـربـيـة مـوحـدة لـلـبـحـر الأحمر ومداخله، فقد عمرت بالمتغيرات السياسيّة الجديدة وامتـلأ بـكـلِّ مظاهر الصراعات الدولية حول هذه المنطقة الاستراتيجية، فَإنَّ السياساتِ العربية –صاحبة المصلحة الأولى-، ظلت غائبةً أَو هاربةً، ومن الملاحظ هنا أن الدولَ الثلاث التي رفضت الحضورَ أَو تعالت عن المشاركـة فـي مؤتمر تـعـز، هـي الدولُ التي كانت وما زالت تُمثّل محورَ الانبطاح والتبعية المفرطة للمعسكر الغربي ممثّلاً بأمريكا، ومن هذا المنطلق كانت الآمالُ العربيةُ كـبـيـرةً فـي مؤتمر تـعـز لوضع استراتيجية عربية موحدة للبحر الأحمر والـقـرن الأفريقي تلـعـب فـيـهـا دوراً أَسَاسياً بما يحقّق مصالحَها الوطنية بالدرجة الأولى والمصالح القومية للعرب بالدرجة الثانية، هذا من جانب، فيما كان يرى البعضُ أنهُ يهدفُ إلى تدعيم انتشار العـقـيـدة الاشتراكية في المنطقة كلِّها، فاليمنُ بشطريه، كان يُصنّف على أنه «بؤرة الاشتراكية» في الطرف الجنوبي للجزيرة العربية، وكان طبيعياً أن يتحالفَ مع بؤرة الاشتراكية الأُخرى في أثيوبيا أَو الصومال المواجهة له غرباً بدعمٍ من الحلفاء السوفييت والكوبييون، ورغم تلاقي أَو تناقض المصالح والأهداف بين الدول الأربع المشتركة في مؤتمر تعز، فَإنَّ الخطَّ المحوريَّ الذي دارت حولَه أهداف كُـلّ منها كان ذلك الصراع الإقليمي الذي يحكم الحركة السياسيّة في اليمن وَالقرن الأفريقي وحول سواحل البحر الأحمر وارتباطه العضوي بالصراع المحتـدم بين الـقـوى الـعـظمى، وتلك القوى المحركة للصراعات المحلـيـة والإقليمـيـة لها أجندة لخـدمـة مصالح حلفائها وأهدافهم الاستراتيجية المتصارعة رغم سريان اتّفاقات الوفاق الدولي بينها.