أسرانا يجسّدون الهُـوِيَّةَ الإِيْمَانية
دينا الرميمة
ما أن تُزف إليهم البشرى بقروبِ موعد خروجهم من الأسر، والنفاد من بين قضبان زنزانة باتت جدرانها تئنُّ من وقع تعذيبهم وهول تلك الوحشية التي تنفّذ بحقِّهم، فهذه اللحظةُ لوحدها تساوي حياةً من الفرح وَميلاداً جديداً مختوماً عليه بختم الكرامة والعزة والشموخ.
فخرجوا حاملين بصدورهم صك حريتهم المعمّد بدمائهم، بعد أن كاد الأملُ بالحياة يتضاءلُ ويضمحلُّ؛ نظراً لطول تلك الفترات التي قضوها في سجون العدوان ومرتزِقته وهم يشاهدون الموتَ يلاحقهم، فقط قضاءُ وقدرُ السجان هو من يفصله عنهم.
ربما كانت مدةُ الأسر خمس سنوات أَو أقل وهكذا نحن نحسبها، لكنها بالنسبة إليهم تساوي عمراً بأكمله، فالساعة فيها شهرٌ، واليوم منها دهرٌ، تحت وطأة سوط السجان الذي تجرد من كُـلِّ أخلاقه وقيمه ومبادئه واستبدلها بالثقافة الوهّابية الصهيونية.
رأيناهم يخرجون وكلُّ ملامح الفرح تغمر أفئدتهم وتملأ محياهم الشاحب، والابتسامةُ تعتلي شفاههم وكلٌّ منهم يحمل في قلبه قصةً مؤلمةً تشهد عليها الجروحُ وآثارُ التعذيب التي تملأ أجسادَهم، وربما منهم من فقد جزءاً من جسده وحواسه ولكنه لم يفقد كرامته.
وبالرغمِ من تلك السعادة التي بدت عليهم إلّا مما لا شك منه أن ذواكرَهم تضج بالكثيرِ من المواقف والذكريات الأليمة لذلك التوحّش الذي أحاط بأيامهم ولياليها، وعندها روَّضوا أرواحَهم على تحمّل ذاك الكم الهائل من العنف من قبل أولئك الذين طلقوا إنسانيتهم واستبدلوها بثقافة القطيع لا البشر.
ساعتها ربما ظنَّ الكثيرُ منا أنهم سيخرجون بروح انتقامية وعدوانية تسحق كُـلَّ من يقع أمامهم من سجانيهم إذَا ما سخّرت لهم الأقدارُ مثلَ هذه الفرصة، وها هي تأتي إليهم الفرصُ ليتفاجأ الجميعُ بتلك الروح الإِيْمَانية التي تعاملت مع السجان وقد أصبح أسيراً بكلِّ ما تحمله الإنسانيةُ من معنىً، وبكلِّ المبادئ والأخلاق القرآنية ومن منطلق قوله تعالى: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ).
خابت ظنونا ونحنُ نرى الأسيرَ المحرّرَ يحتضن سجانه الأسير بعد أن وقع في يده وله كُـلُّ القدرة على الانتقام والنيل منه، لكنه احتوى خوفَه وهدّأ من هلعه ورعشته قائلاً: “مسيرتنا قرآنية وليست انتقامية”!!..
فيا لعظمة هذه المسيرة التي غرست في أبنائها هذه القيم والأخلاق المحمدية، وفيهم تتجلى الهُـوِيَّةُ الإِيْمَانية اليمانية بمعناها الحقيقي، كم كانت ظنونا ظالمة ونحن نتناسى أن مثلَ هؤلاء لا يمكن أن يكونوا إلّا على نهج نبيهم -صلّى اللهُ عليه وعلى آله- حين قال لأهل مكة: (اذهبوا فأنتم الطلقاء)..
وعلينا أن ندركَ ويتيقن الأعداءُ من قبلنا أن اختيارَ النبي المصطفى -صلواتُ ربي عليه وعلى آله- لأهل اليمن ليُتوجّـهم بهُـوِيَّة الإيمان لم يأتِ جزافاً أَو مصادفة، إنما لعلمه اليقين أنهم يستحقون هذه المنحة وأنهم أجدرُ بها وأهلٌ لها، ولعل ما نعرفه عن المجاهدين في الجبهات من تلك الشجاعة والاستبسال حين باعوا لله أنفسَهم، ومن خلال تعاملهم القرآني مع الأسرى، وثباتهم على مبادئهم وقيمهم الدينية في حال وقعوا أسرى، لهو خير دليل على أننا فعلاً شعبُ الإيمان والحكمة وأننا أبداً لن نخذلَ النبي المصطفى أَو نفرّطَ في شيء خصنا به دون سوانا، وسنحاربُ كُـلَّ من يحاول المساسَ بهُـوِيَّتنا الإِيْمَانية مهما كان الثمن.