العراق.. يضعُ نقطةَ التحوّلات ويمحو سطورَ الهيمنة
المسيرة: وهاب علي
مع بزوغِ المشروعِ التحرّريِّ في العراق، بدأ انهيارٌ متسارعٌ وشاملٌ لمنظومة داعش الإجرامية التي يجري حالياً تصفيةُ جيوبها وأوكارها التخربيبة المتناثرة بعد أن كانت قد وصلت على بعد 60 كيلو متراً من بغداد، هذا المشروعُ المقاومُ الذي بدأ بانتصارٍ تاريخيٍّ في ناحية نائية في محافظة سامراء، واستمرَّ بقوة متصاعدة ليطهر مناطقَ وسط العراق وجنوب بغداد وتحديداً بلدة جرف الصخر التي كانت بمثابة “دماج في نسختها العراقية” والأنبار والموصل، وُصُولاً إلى القضاء حتى على مشروع تقسيم العراق عند وصول الحشد إلى كركوك وإطفاء النزعة “البرزانية” التابعة لإسرائيل التي تقلص نفوذها وهامش تحَرّكها كَثيراً بالتوازي مع تحَرّك الحشد الشعبي، وانهيار منظومة داعش في العراق بشكلها المخطّط له من قبل أمريكا وكيان العدوّ، والذي أراد تأسيسَ إمبراطورية تكفيرية متعدّدة الأذرع والمهام، ترث المناطق التي انسحب منها كخنجر أكثر فاعلية وأقل كلفة في خاصرة الثورة الإسلامية الإيرانية، وكذا بما يضمن لأمريكا تضييق الخناق على طموحات مشاريع القوى العالمية الأُخرى كطريق الحرير والمساعي الروسية الرامية إلى استعادة دورها السابق وتعميق تحالفاتها في المنطقة وبما يمكنها من الوصولِ إلى المياه الدافئة، فضلاً عن أن إمبراطوريةَ داعش كان يُفترضُ بها أن تضمن للأمريكيين أحكام سيطرتهم على الثروات والموارد في المنطقة التي تُمثّل -من الناحية الجيوسياسية، إلى جانبِ وسط آسيا- هلالاً يحيط بقلب العالم، حيثُ لا يمكن السيطرةُ على القلب إطلاقاً دون أن تتم السيطرةُ على الحزام لو الهلال المحيط بالقلب (المناورات الإيرانية للروسية الصينية البحرية المشتركة في المحيط الهندي لا تبتعد في جوهرها عن هذا المنحى).
واستناداً إلى كُـلِّ ذلك، تبرز خطورةُ الحشد الشعبي على المصالح الأمريكية بشكل مؤرق، وبرزت كذلك أهميّةُ المساندة الميدانية واللوجستية التي قدّمها فيلقُ القدس لدعم إمْكَانية التحرّر وبسط سيادة العراقيين على أرضهم وخروج بلادهم من الوصاية الأمريكية، وبفضل الله وتعاون وخبرات المجاهدين نجحت القوى العراقية التي كانت في طور التأسيس من استكمال مقومات نموها واستمرارها وإتمام المهام الأَسَاسية المتعلقة بدحر تنظيم داعش الإجرامي بشكلٍ كاملٍ خلال تلك الفترة الوجيزة، وعلى كُـلِّ حال لا يمكن قراءةُ حقيقة ودلالات تلك الانتصارات وإدراك حجم وامتداد وأهميّة آثارها، إلّا ضمن قراءة واعية تشمل مجمل خارطة الصراع في المنطقة وتأخذ في الاعتبار تكامل كافة المكتسبات التي تحقّقت لمحور المقاومة على امتداد رقعة التجاذبات الساخنة، ومن تلك المكتسبات الاستراتيجية الهامة على صعيد الجهد التحرّري المؤرق لكيان العدوّ الصهيوني وللأمريكيين، تأمينُ الحدود العراقية السورية وفتح معبر البوكمال وتأمين الخط الدولي الذي يصلُ عدداً من دول وحركات محور المقاومة ببعضها، إضافة إلى تأمين مناطق غرب درعا المحاذية للجولان المحتلّ، وكلُّ ذلك يظهر خطورةَ المشاريع التحرّرية ممثّلة بكلِّ الشخصيات القيادية المرجعية وَالميدانية الفاعلة -التي يسعى العدوُّ على الدوام إلى استهدافها- في صنع هذه الانتصارات وتحقيق هذه المكاسب الاستراتيجية وغيرها، والتي تُمثّل ليس فقط خطراً على المصالح الأمريكية وَالإسرائيلية بل تُمثّل خطراً وجودياً على كيان العدوِّ.
وفي هذا السياقِ، يمكن قراءةُ مخاوف قوى الاستكبار العالمي التي عملت مؤخّراً على تعزيز وجودها وتموضعها في العراق بعد انسحابها الشكلي، ويمكن الوقوفُ على مدى انزعاجها من تنامي فكرة مقاومة وجودها في العراق وتصاعد عمليات المقاومة العراقية التي ينفّذها الحشدُ ضد مناطق وأماكن تمركز قواتها، وَأخيراً كان إصرارُ قوى الحشد الشعبي على اختيار حكومة وطنية خارج الوصاية أمراً لا يمكن القبولُ به من جانب أمريكا خَاصَّةً وأن بعضَ تلك القوى -كتائب حزب الله -، كانت قد أصدرت بيانات سياسية قبل أسابيع تحذّر فيه من مساعي اختيار حكومة موالية للأجنبي، وأكّـدت أنها ستسعى لإعادة الأمور إلى نصابها الوطني، بمعنى أنها ستتحَرّك ميدانياً لإفشال المخطّطات الأمريكية والإسرائيلية والتي كان آخرَها كما يبدو هو العملُ على تحريك الشراع العراقي لإحداث تغييرات عجزت عن تحقيقها بالقوة المباشرة أَو عبر الأدوات المتأسلمة، وفيما يبدو أن ذلك المزيج المزعج لقوى الاستكبار أسهم -مع أَسبابٍ أُخرى- في تعزيز النوايا الأمريكية والإسرائيلية الآثمة المرتبطة بضرورة استهداف هذه القيادات العظيمة، رغم التداعيات الخطيرة الناتجة عن ذلك والتي قد تجرُّ المنطقة برمتها إلى حرب شاملة.
من ناحيةٍ أُخرى، تأتي حادثةُ الاغتيال الإجرامية هذه في ظلِّ ضغوط داخلية كبيرة يواجهها ترامب على أكثر من صعيد؛ ولذا فمن المحتمل أن تكون محاولةً للتخفيف من تلك الضغوط وَلتغيير دفة بعض التوجّـهات الداخلية، وخَاصَّةً تلك المتعلقة بالحزب الديمقراطي ومساعيه المتواصلة لمراكمة انتصارات جزئية في معاركه الدستورية والإعلامية للنيل من ترامب عبر السير في إجراءات عزله إلى أبعد مدى ممكن، والتشهير بطريقة إدارته وسياساته العامة والتشكيك في صحة وسلامة قراراته، وخُصُوصاً تلك المرتبطة بتقليص التواجد الأمريكي شرق الفرات، كما يمكن إدراجُ هذه الجريمة الأمريكية الإسرائيلية ضمن سياق يرمي إلى ترميم صورة الحماية الأمريكية التي تعرّضت للكثير من الهزات والضربات على غرار عمليات توازن الردع الكبرى، التي نفّذها الجيشُ اليمنيُّ في العمق السعودي، وإسقاط الطائرة التجسسية الأكثر تطوراً، وغير ذلك مما انعكس سلباً على حجم مبيعات الأسلحة الأمريكية بمختلف أنواعها، وذلك بعد فشلها الميداني الذريع، ما أَدَّى إلى ازدهار نسبي لمبيعات السلاح الروسي، إضافة إلى تطور العلاقات الروسية الخليجية بشكل غير مسبوق؛ نتيجةَ خيبة الأمل الكبيرة التي أصابت بعضَ تلك الأنظمة، وعلى رأسها السعوديةُ والإماراتُ وجعلتها تفكر جدياً في بناء مقاربات معينة مع بعض القوى والعمل على الحدِّ من جذوة الحروب الطاحنة، التي أشعلتها تلك الممالك في المنطقة والسير باتّجاه بناء تحالفات جزئية أَو محدّدة مع روسيا والصين.
عُموماً فقد أسهم كُـلُّ ذلك -مع عواملَ أُخرى سبق ذكرها- في تأجيج النوايا الإجرامية لقوى الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية الهادفة مرحلياً إلى استهداف شخصيات ميدانية بارزة في محور المقاومة، في إطار العمل على إضعاف المحور عُموماً على أَسَاس أن تغييب تلك أهم الشخوص؛ باعتبارها إحدى أهم الطاقات العسكرية الإبداعية الفاعلة والمؤثرة على مشاريع قوى الاستكبار في المنطقة، ظناً منها أن ذلك سيعيقُ التوجّـهات والمشاريع التحرّرية في المنطقة، وذلك وهمٌ كبيرٌ وقد أثبتت الأيّامُ وسنواتُ الصراع سخافةَ ذلك التصور الذي لم يعق انطلاق الشعوب صوب حريتها وسيادتها واستقرارها بعد استهداف قادة المشروع التحرّري كالسيد الشهيد القائد المؤسّس رضوانُ الله عليه عام 2004م، أَو السيد الشهيد عباس الموسوي عام 93م في لبنان، والشهيد فتحي الشقاقي عام 95م، أَو تلك الشخصيات التي مثّلت نماذجَ حية لنقاء وفاعلية وحركية المشاريع التحرّرية كالرئيس الشهيد صالح علي الصمّاد في العام 2018م، والشهيد عماد مغنية، والشهيد طه المداني، والشهيد مصطفى بدر الدين، إذ أنه وبرغم أن غيابَ الشخصيات العظيمة يمثل خسارةً كبرى على كافة المستويات، إلّا أنها وفي ذات الوقت -بصيغتها الإنسانية والإِيْمَانية- تظلُّ غايةً وطموحاً هائلاً، وتلك هي روحية الجهاد المحركة للطاقات المجتمعية صوب “بذل الجهد” والفوز الكبير.