الأُمُّ المحِبة لأولادها تعرفُ أن مصلحتَهم هي الفوزُ في رضا الله ونيل الشهادة
أم الشهيدين عبدالله وأسامة عبدالحكيم المتوكل في حوار خاص للمسيرة:
بحثوا عن الرفعةِ وعن أفضلِ العطاء، جابوا بنظرهم كُـلَّ بقاع الأرض فلم تهوَ أنفسُهم رغدَ العيش ولا عجائبَ الدنيا، فرفضوا الانصياعَ للرغبات والشهوات، ورفضوا الانقيادَ لثقافاتٍ علموا حقاً أنها من المهلكات وليست من المربحات للدار الأُخرى، طمعوا بنعيم الله وتمنَّوا أن يكونوا من عبادِ الله المقربين، فتيقنوا أن العطاءَ لن يكون سوى في ميادين البيع من الله، فحملوا أرواحَهم على أكفهم وهرعوا لترك الدنيا والظفر بنعيم الآخرة، أخلصوا النيةَ وباعوا النفسَ من الله، تاجروا بأرواحهم فكانوا نعم الرابحين وكانوا خيرَ البائعين من الله، وكان اللهُ جلَّ وعلا خيرَ من اشترى، فكانوا هم الأحياءَ وما دونَهم كانوا هم الأموات، فصعدوا إلى السماء أحياء شهداء فنعم الفوزُ ونعم عقبى الدار.
الشهداء هم روحيةُ العطاء والبذل، هم نبراسُ الأمة الواعية والمجاهدة، من أيقنت أن ما دون الشهداء أموات غافلون غارقون في مستنقع الحياة الفانية، وعن عظيمِ الشهداء والشهادة كان لنا لقاء مع إحدى الأمهات العظيمات من قدّمن فلذاتِ أكبادهن؛ نصرةً لله ولدينه وذوداً عن الأرض والعرض.
أمُّ الشهيدين عبدالله وأسامة المتوكل، وأخت الشهيد عبدالله محمد المتوكل، جسّدت الصمودَ والرفعةَ التي تتحلى بها كُـلُّ أمهات الشهداء الحرائر، وتحدثت لصحيفة “المسيرة” عن بعض الجوانب، نستعرضها في نصِّ الحوار التالي:
المسيرة| أشجان الجرموزي
– أهلاً ومرحباً بك؟
أهلاً بكم، ونشكركم على هذه اللفتةِ الرائعة.
– بداية هلّا تعرّفين القارئَ عن نفسِك؟
أنا أم الشهيدين عبدالله وأسامة عبدالحكيم المتوكل، وأخت الشهيد عبدالله محمد المتوكل، أعمل مساعدةً لمنسقة الأنشطة والفعاليات بالأمانة، وأقوم بالعديدِ من الأعمال الجهادية المختلفة.
– كم لديك شهداء وكيف كانت بدايةُ انطلاقتهم؟
اثنان أولادي والثالث أخي، كانت بدايةُ انطلاقتهم انطلاقةً تنمُّ عن دافعٍ قوي للدفاع عن الدين والأرض والعرض في سبيل الله، كما أمر اللهُ في كتابه الكريم ونهج الرسول -صلّى اللهُ عليه وعلى آله-، وكذلك نهج آل بيته فكانوا ممن توجّـهوا على نهجٍ قرآنيٍّ وتوجيهات السيّد -سلامُ الله عليه-.
إن ولدي عبدالله مُصِــرٌّ جِـدًّا على الجهادِ منذُ الشرارة الأولى للعدوان الجائر، فقلت له: إن أباك أولى بالجهادِ منك، وأنت مَحْرَمٌ لي في السفر، فقال: تشتوا تخلوني “مكلف” داخل البيت، مستحيل أجلس، فبعد سفرنا إلى قريتنا في محافظة إب في بدايةِ العدوان، حَيْـثُ كان الجميعُ ينزح إلى القرى؛ خوفاً من الصواريخ وطائرات العدو، كانت حالتُه النفسيةُ آنذاك تزداد سوءاً؛ بسَببِ عدم ذهابه للجهاد، كانت تلك المدة شهرين فقط، وكان قد وصل إلى أوج تعبه وحزنه، فرجعنا مضطرين لصنعاء؛ لأجله وبسبَبِ إصراره فانطلق شبلاً صغيراً مجاهداً لم يتجاوز السابعةَ عشرة من عمره، إلّا أنه استشعر المسؤوليةَ وأدرك أن لا حياة إلّا مع الله وفي سبيله، فانطلق أولاً يشقُّ طريقَ الجهاد في العاصمة صنعاء لمدة ثلاثة أشهر، وعمل ضمن فريق الاقتحامات، ومن ثم انطلق إلى مأرب وتحديداً جبهةَ صرواح، كانت أول وآخر جبهة التحق بها، ظل يجاهدُ ويستبسلُ فيها قرابة العامين والنصف وفيها استشهد، ولا زلت أتذكر جملةً قالها لي في إحدى زياراته وعودته من الجبهة، حَيْـثُ قال لي: “لقد تأخرنا يا أماه قوي”، وكأنه يتكلم حينها بلسان مجاهد عاصر حروباً عدة، ولم يكن الصغير ذو 17 ربيعاً، وكان يقصد بكلامه أنه تأخر الناسُ عن الجهاد ونصرة دين الله والوقوف في وجه الظلم وطواغيت العصر.
أما أسامة فقد كان عبدالله على تواصل دائم معه، ويحثه على الاستعداد للتحَرّك بعده بعد أن يكمل الامتحانات، وما إن انتهت الامتحاناتُ إلّا وأسامة قد تجهز وكأنه صار من أوائل المجاهدين من شدة رغبته وشوقه الشديد للجهاد رغم صغر سنه، كانت أولُ جبهة يلتحق بها هي جبهة جيزان، وظلَّ فيها ثلاثة أشهر ومن ثم عاد لزيارتنا ومن ثم تم نقلُه إلى جبهة صرواح بطلب منه، حَيْـثُ كان يقول: أخي ينتظرني هناك، مكث فيها ستةَ أشهر ومن ثم عاد جريحاً وبقي شهرا كاملاً في المستشفى إثر جراحه البالغة، وبعدَ خروجِه من المستشفى رابط شهرين في أحد المقرات في العاصمة صنعاء، ومن ثم عزم على العودة إلى جبهة صرواح تأكيداً منه بأن جراحَه لن تلتئم سوى في الجبهة ومسارعاً للقاء أخيه، حَيْـثُ وكأنه كان يشعرُ بأن الشهادةَ قريبة جِـدًّا منه، وأنه سيلتحق بأخيه في القريب العاجل، فقد كان دائمَ الحديث عن أخيه ولطالما كان يأتي له في المنام ليخبره أنه في انتظاره ويخبره كيف السبيل إلى الوصول إليه، فانطلق عائداً إلى جبهته وثكنته واستبسل فيها ستةَ أشهر ومن ثم عاد إلينا حاملاً وسامَ الشهادة لاحقاً بركب أخيه الذي سبقه، وكان وأخوه من قبله أشبالاً يذيقون المعتدي أشدَّ التنكيل، ويصبرون ويرابطون ويتحملون أحلكَ الظروف ويسعون لاجتياز كومة المصاعب والعثرات التي تواجههم.
أما أخي عبدالله كان مرابطاً مع اللجانِ الشعبيّة من قبل العدوان في النقاط، وقد جُرح قبل العدوان وكانت جروحُه بليغةً جِـدًّا، وبعد شن الحرب علينا انطلق مجاهداً ضمن اللجان يجوب الجبهات، حَيْـثُ جُرح أكثر من أربع مرات جروحاً بالغةَ الأثر، دوناً عن الملاريا التي أنهكت جسدَه عدة مرات، لكنه ظل مجاهداً في قمة الإيمان والرقي، وكل ما ألمَّ به جرحٌ أَو مرضٌ ازداد إصراراً في مواصلة الجهاد وبقوة وعزيمةٍ لا نظير لهما، وارتقى شهيداً وهوه لا يزال مثخناً بالجراح والملاريا لم تود مفارقةَ جسده.
– أين استشهدوا، وكيف كان استقبالك لخبر استشهاد كلٍّ منهم، وهل كنت تتوقعين استشهادَهم أم لا؟
كما ذكرت آنفاً، فعبدالله استشهد في جبهة صرواح بتاريخ 29/ 7/ 2017م، وكذلك أسامة في جبهة صرواح بتاريخ 13/ 2/ 2019م، أما أخي عبدالله فاستشهد في الحديدة بتاريخ 15/ 8/ 2019م.
وعن استقبالي لكلِّ شهيد منهم فهو نفس استقبال كُـلّ أسرة قدمت شهيداً معطاءً بذل روحَه فداءً لله وفي سبيله ونصرة لوطنه، كانت الزوامل تصدح بأعلى صوت والصرخات والتبرؤ من أعداء الله والألعاب النارية، إلّا أن الاستقبالَ لابني عبدالله الشهيد الأول كان أكبر لكثرة توصياته بأني أزفه على أرقى مستوى.
وللعلم كانت نفسيتي مرتاحة جِـدًّا وقت وصول خبر استشهادهم، وقد شعرت بالخجل من الله من أن تسقطَ لي دمعة على هذه النعمة العظيمة، وهذا العطاء الذي لا يضاهيه أيُّ عطاء على وجه الأرض سوى عدالة رب السماء، فشعرت بالراحة والطمأنينة الكبيرة وكأني ضمنت لهم مستقبلاً زاهراً وعطاءً وافراً بجوار الله وفي جناته.
إخلاص الشهداء الثلاثة ورقي أعمالهما، وضياء وجههم وجبينهم، جعلني أثق أنهم على مقربة من الشهادة والسكون بعالم الخلود.
فهم من قال فيهم القرآنُ: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ)، فهم يحبون اللهَ ويسارعون لمرضاته، فوجب تحقّق وعد الله لهم بحبِّه الكبير ونقلهم إلى جواره العظيم.
– هل ترين أن للشهادة أهميّةً في المجتمع عامة وفي ظل هذا العدوان خَاصَّة، ولماذا؟
أكيد، فعندما يستشهد الشهيدُ يتحَرّك من المجتمع كثيرٌ من الصامتين الذين يقولون لا دخلَ لنا بالحرب، لكنهم بعد رؤية قوافل الشهداء، يشعرون أن القضيةَ قريبةٌ منهم أكثر ما هم عليه، فدماءُ الشهيد تحَرّك مشاعرَ الكثير للتحَرّك إلى الجبهات هذا بالنسبة للمجتمع.
أما بالنسبة للعدو خَاصَّةً فهي تحدث في قلبه فزعاً وريبة؛ لأَنَّه يراقب هذا المجاهد هل سيفر من الجبهة أم سيواجه، فيجد أن المجاهَد يدفع نفسَه بقوة في الميدان كأنه يعشق الموتَ في سبيل الله فيجن جنونُ العدوّ؛ لأَنَّه لا يملك ما يخيف به مجاهدينا الأبطال.
– ما الأمر الذي وددتي إخبارَهم به قبل استشهادهم ولم يتسنَ لك الوقتُ أَو لم تُتَح لك أيةُ فرصة؟
لا يوجد أمر لم أحدثهم به الثلاثة الشهداء؛ لأَنَّي كنتُ على تواصل دائم وقوي بالشهيدين أولادي، أما الثالث أخي عبدالله تمنيت أن أهاتفه للاطمئنان عليه؛ لأَنَّه كان يحاول التواصلَ معي في الثلاثة الأيّام الأخيرة له ولا يوجد تغطية، وكنت أتوق لسماع صوته وَإخباره بأن يهتم بنفسِه أكثرَ؛ لأَنَّه كان متعباً؛ بسَببِ الملاريا التي لم تدع له مجالاً للراحة.
– ماذا لو عاد شهداؤك للحياة هل ستدفعين بهم للجبهات مجدداً؟ ولماذا؟
لو عاد أولادي سأحاول أن أضمهم إلى صدري ولو مرةً واحدةً فقد اشتقت إليهم كثيراً، وبعدها فليتوجّـهوا للجبهات مجدداً لما لي من علمٍ بأن الجهادَ حياة في قمة الروعة مع الله، فقد كانوا مستمتعين به؛ لأَنَّ المساير والرفيق الذي كان يساندهم هو اللهُ ولو استشهدوا فما الشهادةُ إلّا نتيجةُ نجاح البيع مع الله، وهذا مطلبٌ أكيدٌ يتمناه المجاهدون؛ لأَنَّهم يحبون الله ويعيشون الذوبانَ في حبِّه، فكلُّ قوتهم مستمدة من هذا الحب، ولو كنت أماً محبة لأولادي لعرفت أن مصلحتهم تكمن في الفوز برضا الله، ونيل الشهادة.
– ماهي رسالتك لكل الأمهات في أسبوع الشهيد سواءً أم الشهيد أَو غيرها؟
رسالتي لكلِّ أم أَو أخت أَو زوجة أَو قريبة شهيد، بأن اللهَ يعصم قلوبنا جميعاً، وأقول لهن: الشهادةُ نعمة عظيمة من الله لا يوازيها أيُّ نعمة، فالشهادة ليست من أي أحد وإنما هي من الله العظيم الرحمن الرحيم، فيجب الافتخارُ بها والرقي بأولادنا بما جاهدوا وبما عملوا، وفخرٌ لنا وعزةٌ وكرامةٌ أن نقدّمَ منا ومن فلذات أكبادنا فداءً لله ولدينه ودفاعاً عن الأرض والعرض، فوجب أن نبقى ثابتين متربصين للعدو، وسنظل صامدين بفضلِ هؤلاء الأحرار، فهنيئاً لهم الشهادةَ وهنيئاً لكلِّ أسرة الفخرَ بما قدّمت من عظماء.
– هل من كلمة أخيرة أَو نصيحة تودين ختمَ هذا الحوار بها؟
أودُّ أن أنصحَ كُـلَّ أم أن تدفع برجالها وأولادها للجبهات؛ لأَنَّ هذه هي الحياة الحقيقية، عزة وكرامة وحرية، هذه الأشياء لم نكن نعرفها إلّا بعد أن واجهنا أعداءَ الله وتحرّرنا من الوصاية الأمريكية.
فالجهادُ واجبٌ دينيٌّ، فرضه اللهُ على كُـلّ المؤمنين ولا يكتمل الإيمانُ إلّا به، أما الشهادةُ فهي فضل من الله لا يصل إليه إلّا من وصلت مرتبته مع الأنبياء والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، فتلك نعمةٌ عظيمة بأن كان أولادي وأخي شهداء.
وليس بعد تضحيات العظماء كلامٌ يُقال، ولن تفيَ السطورُ أحرفَ المديح بحقِّهم، فهم بحرُ العطاء الذي لا ينضب، وهم جنودُ الله على الأرض، فرحت السماءُ بقدومهم فسارعت إلى عناقهم، وتزلزلت الأرضُ؛ لكي تتلقف أجسادَهم الطاهرةَ وترتوي من دمائهم العبقة الزكية.