(مايكل صعتر)
حمود محمد شرف
في العام ١٩٩٨م بلغتُ سنَّ الثالثة عشرة، وآنذاك وجدت نفسي منشداً للخطابِ الديني وكثيرَ الإعجاب بأصحابه، سيما أولئك الذين كثيراً ما كانوا يظهرون على شاشةِ تلفزيون اليمن الرسمي، وهم يتحدّثون عن القضيةِ الفلسطينية ويدعون إلى جمعِ التبرّعات لنُصرتها، وكان “الشيخ عبدالله صعتر” بطبيعة الحال هو صاحبُ السهم الأوفر من ذلك الانشداد والإعجاب اللّذَينِ كانا يتملّكانني، حتى أنني مَن سعيت حينها لإقناعِ والدتي بأن تتبرّع بقرطيها الذهبيين لصالح ما يدعو إليه العالمُ الجليل “الشيخ صعتر”!، وبرغم أن والدتي كانت أُميّةً لا تعرف القراءةَ ولا الكتابةَ، إلا أنها كانت تقولُ لي وبلهجتها الصنعانية التحيفة: “يا ابني يا ابني.. لااا تصدق لهذه القُطِيع -وهي تشير إلى صورة الشيخ صعتر على التلفاز- ولا تغرّك دقنته الحمراء هذه”، وكنت أردُّ عليها وأقول: “يا اماه ابردوا لكم من دقنته وشكله، اسمعوا اسمعوا على كلام بيِدّي!!”، فتردفُ قائلةً لي: “يااا ابني لا تصدق له، من يوووم عرفناه وهو بيِدّي هذه المجابر، لكن ما والله قد ابسرنا خير، لا منّه ولا من عَيْنَتِه، لا لليمن ولا لفلسطين”..، وعلى إلحاحٍ منّي ومضضٍ منها تمكنت من انتزاع قرطيها والحمد لله، وذهبت من فوري للتبرع بهما لفلسطين، حيث قمت بتسليمهما إلى أحدِ مندوبي جمع التبرعات الذين أشار إليهم “صعتر” والذين لم أكن مهتماً بمعرفة انتماءاتهم الحزبية، بل لم تكن لدي أيُّ ميولاتٍ أيدولوجية أساساً حتى أهتم لذلك، كلُّ ما في الأمر “مندوب لجمع التبرعات لفلسطين”.. والسلام.
إلى الآن ما زلتُ أتذكر تلكم الكلمات التي قالتها لي والدتي لحظةَ أن سلّمتني القرطين، وأبتسم ساخراً من “خجافتي” حقاً: “هه.. اشبح يااخجَف، الذي ما يستمع أكبر منّه مااابش ادبر منّه”، هكذا قالت لي.
مؤخراً، وكلما قرأتُ تصريحاً لـ”مايكل آرون” -سفير دلالة العدوان “بريطانيا”- أتذكّر كلماتها تلك، إذ لا أخفيكم أنني وبعد أن تجاوزتَ سن الثالثة عشرة بست سنوات وصار عمري في العام ٢٠٠٤م (٢١) عاماً، كنت في هذه المرحلة العمرية قد قطعت شوطاً في الانفتاح -الساذج- على الحضارة الغربية، والتي كان أكثر ما بهرني منها وعلى وجه التحديد هو المدى الذي بلغته “بريطانيا” من ازدهارٍ حضاري وإنساني وتقدّم علمي وتكنلوجي ومن قوة عسكرية ضاربة تمتدُّ في الزمن لأكثر من قرنٍ، حازت خلاله لقب “المملكة التي لا تغيبُ عنها الشمس”، فكان ذلك اللقب الرائج -للأسف الشديد- هو الطُّعم الذي جعلني أعلَقُ بسنّارة الحضارة البريطانية، والتي تكشّف لي شيئاً فشيئاً أنها زائفةٌ بمجرد أن بدأت آنذاك السلطةُ الظالمةُ برئاسة مجرم الحرب “علي عبدالله صالح” بشنّ حربها الأولى على السيد “حسين بدرالدين الحوثي” وأنصار مشروعه القرآني بـ “مرّان” شمالي “صعدة”، ولعلّ اندلاعَ تلك الحرب الظالمة كان من حُسنِ حظّي بغضّ النظر عن حجم الوجع الذي خلّفته وهول الفادحة التي أحدثته، والحاصلُ أنني كنت قبل اندلاعِها قد كدتُّ أصل إلى قناعةٍ تامة بالجدوى من التنكر لحضارتي اليمنية وهُويتي الإيمانية، وبضرورة البحثِ عن وسيلةٍ تمكنني كشابٍّ طموح من نيل فرصة الانتقال إلى “لندن”؛ بهدَفِ استكمال دراستي الجامعية والحصول على الجنسية البريطانية، وكان من أهم أسباب تبلور تلك القناعة التي كدت أصل إليها -لولا اندلاع تلك الحرب- هو ما أوصلتنا إليه سلطةُ مجرم الحرب “صالح” ونظامُه العقيم من حالةٍ مترديّةٍ على كلِّ المستويات، بتنا نحتقر معها أنفسنا كيمنيين، وأنه لا عزّ لمن أراد منا أن يعيشَ في بلده مكرّماً، ولا عزاء لمن تخلّى واغترب عنه مرغماً، فخلاصةُ ما أوصلنا إليه ذلك النظام وتلك السلطة خلال عقودٍ هو أننا “شعب عرطَة!!”.
في البداية لم تكن دوافعُ السلطة لشنّ حربها الأولى تلك هي ما كشفت لي زيفَ الحضارة البريطانية، إذ كانت الدوافعُ الحقيقة لشنّ تلك الحرب خافيةً على الجميع، بل تداعياتُ تلك الحرب وامتداداتُها العنصرية والمناطقية التي طالت الكثيرين -وأنا واحد منهم- هي التي كانت سبباً في إرغامي على التخلي عن حلمي بالانتقال إلى لندن والحصول على الجنسية البريطانية، فالظروفُ قد تغيّرت والأوضاع قد أصبحت وعلى نحوٍ خاص أكثرُ تعقيداً من ذي قبل.
من هنا وحرباً فحرباً وإلى أن شنّت السلطةُ الظالمة نفسُها حربَها السادسةَ على “أنصار الله” وصعدة.. كانت الفُرَصُ تتهيأ لي وعلى نحوٍ غير متوقع لمعرفة الحقيقة الكاملة عن زيف حضارة “المملكة التي لا تغيب عنها الشمس”، المملكة التي ظلت قائمةً لأكثر من (١٢٩) عاماً على أنقاضِ سيادةِ جنوبنا اليمني والعديدِ من أقطارنا العربية، وفي مقدمتها فلسطين التي سلّمتها هذه المملكةُ مناجزةً إلى أيادي الصهاينة الإسرائيليين إبّانَ الوعد المشؤوم أو ما عُرِفَ بـ”وعد بلفور”، وظلّت بريطانيا لعقود طويلة تدوس على كرامةِ مئات الآلاف بل الملايين من اليمنيين والفلسطينيين وغيرهم من شعوب أمتنا العربية والإسلامية، وتتمشّى فوق أشلاء أطفالنا ونسائنا، منتهكةً كلَّ حقوق الإنسانية التي ما تزال لحدّ الآن تتشدق بها هي ونظيراتُها من دول الغرب المعادية.. ولماذا أتيتم؟! -كان يتساءلُ اليمنيون والفلسطينيون- وتُجيبُ المملكة المتحدة: “من أجل تحريركم”، ولماذا يحدث كلُّ ذلك؟!، تقول: “لمصلحتكم طبعاً”!!.
نعم، إنه المنطقُ ذاته الذي يسمعه اليمنيون منذُ خمس سنوات من الشيخ “صعتر” وأمثاله ممن استجلبوا هذا العدوانَ الأمريكي الصهيوسعوإمارتي على بلادِهم وأبناء شعبهم، وهو ذاته -ولا مفارقة- نفسُ المنطق الذي عاد سفيرُ دلاّلة العدوان بريطانيا “مايكل آرون” ليُسمعَنا إياه اليوم، والذي عاد -عقب تطهير مجاهدي الجيش اليمني واللجان الشعبية الأبطال لمديرية “نِهم” من مرتزقة العدوان وكذا مُشارفتهم على الانتهاء بعون الله تعالى من استكمال تطهير ما تبقى من جيوب المرتزقة بمحافظتي الجوف ومأرب- ليقول في تصريحه الذي أدلى به لوسائل إعلامية وتناقلته مواقعُ إعلام مرتزقة العدوان: (أصبح هناك حاجة اليومَ لاتفاق سياسي شامل يوقف الحربَ في كلِّ الجبهات، كثير من الأمور قد تغيّرت، والإماراتيون قد انسحبوا ولم يعودوا موجودين على الأرض، وهناك تغيّر في الموقف السعودي فيما يخص وقف الحرب…).
قال السفير البريطاني ذلك بلغته “الإنكليزية” طبعاً، لكن ونظراً لانعدام ثقتنا مطلقاً بمترجمي مواقع مرتزقة العدوان، فإنَّني أرى أن من واجبي أن أتولى بنفسي ترجمة هذا الجزء الذي أوردته لكم من تصريحه، حيث يقول لكم فيه وفيما معناه أنه: [آن الأوانُ لليمن أن يحظى أبناؤه بكاملِ سيادته، وأن يجلسوا على طاولةٍ واحدة للبدء في حوارٍ (يمني يمني) خالص يفضي إلى حقن دمائهم وحلّ خلافاتهم وبعيداً عن أية تدخلات خارجية]، وهو بدعوته هذه -ههههههههه.. اممم المعذرة!!- هو إنما يذكّرنا بذي اللحية الحمراء “الشيخ صعتر”، يوم كان يدعو اليمنيين إلى جمع التبرعات لصالح تحرير فلسطين وإنقاذ شعبها، فإذا بانقلاب المشهد يُظهِرُهُ وقد أصبح -بحِنّاء وبدون حِنّاء- من أبرز الدعاة إلى التطبيع مع كيان العدو الإسرائيلي، بل والأسوأ من ذلك إلى احتلال اليمن وقتل عشرات الملايين من أبنائها!!، هكذا يفعلُ “الجملوكيون” اليوم.
أعدكم أنني سأظل أدعو اللهَ لوالدتي وحكمتها، وسأظل أحمده أنها لم تكن متعلّمةً ولا عالمة، فلو كانت كذلك لما كانت قد أسدت إليّ حكمتها في بضع الكلمات تلك التي قالت لي فيها أنني “أخجف”؛ والواقعُ أنني كنت “أخجف” فعلاً، فقد استطاع “صعتر” -مستغلاً خجافتي- أن يسلبَ والدتي قرطيها الذهبيين، ولكن.. ليس بعد الآن، فما استطاعَ “عبدالله آرون” أن يسلبَه بواسطتي من “أمّي” بالأمس، لن يستطيعَ “مايكل صعتر” أن يسلبه بواسطة “التصريحات البريطانية الزائفة” منا اليوم، فمكتسباتُ شعبنا اليمني من صموده وتضحياته وصبره وانتصاراته هي له لوحده، وتقرير مصيرها ليس لغيره، وأما الآخرون فليذهبوا جميعاً إلى الجحيم، فمِلّةُ الكُفر واحدة، وعهدُ “الخَجَافة” قد ولّى وإلى غير رجعة، منذُ أن أطلقَ عيسى الليث مطلع سبتمبر أيلول ٢٠١٤م زاملَه الشهير “بالعشر ما نبالي”.