الصلاةُ في محراب اليهود
د. فاطمة بخيت
يُقال: إنّ الإنسانَ حيوانٌ ناطقٌ..، إذَا كان مَن أطلق هذه المقولةَ يرى واقعيةَ ذلك، فهل النطقُ وحدَه هو ما يميِّزُ الإنسانَ عن الحيوان؟!
منذ أن خلق الله الإنسان واستخلفه في هذه الأرض، وضع له منهجاً وحدّد له مساراتٍ يهتدي بها؛ للسير فيها وإعمارها، وأرسل الأنبياءَ والرسلَ لهدايتهم وأَعلام الهُدى من بعدهم، ليكونوا هداةً مهديين لتصحيح مسار الإنسان إذَا ما تعرّض للزيغ والضلال عن المسار القويم والصراط المستقيم الذي رسمه اللهُ عزَّ وجلَّ لعباده.
واليومَ ونحنُ نعيش في القرن الخامس عشر لبعثة خاتم الأنبياء والمرسلين سيدنا -محمد صلى الله عليه وآله وسلم-، يتجلّى على هذه الأرض مدى ذلك الزيغ والضلال الذي نال من هذه الأمة بإعراضها عن هدى الله وما أنزله على نبيه -صلوات الله عليه وعلى آله-، وعن اتّباع أعلام الهدى والمنهج القرآني الذي يضمن لها الاستقامةَ في هذه الحياة، فكانت النتيجةُ أن تسلطت عليها قوى الشر، وأصبحت في حالةٍ مزريةٍ من الذل والخزي والهوان، ويزداد الوضعُ سوءاً؛ نتيجةً ذلك، وتمرُّ الأحداث بشكل متسارع، يتزامن معها كشف الكثير من الحقائق، وتساقط الكثير من الأقنعة.
وما حدث قبل أيام من إعلان لما يسمى بـ (صفقة القرن) أَو بالأصح نكبة القرن، ما هو إلّا نتيجة طبيعية لما وصل إليه حالُ الأمة من الذل والهوان، وهذه الخطوة بالطبع لم تأتِ على حين غفلة من أبناء هذه الأمة، بل سبقها سعي حثيث وعمل دؤوب في الخفاء ثم على العلن وأمام الأشهاد، من قِبل اليهود وإخوان اليهود وصهاينة العرب، حتى تُعبد الطريق ويُقرب البعيد، وتُزاح من أمامهم كُـلُّ العقبات والعراقيل، حتى يصلوا إلى مبتغاهم بأقل التكاليف.
كنتُ أنتظر قبل كتابة هذه الكلمات أنّها ستقوم الكثيرُ من المظاهرات الغاضبة والمندّدة في شتى البلاد الإسلامية بالصفقة المشؤومة، من قِبل ما يزيد على المليار مسلم، ولو حتى نسبياً بالمقارنة مع ما كنا نشاهده على شاشة التلفاز عندما كنا صغاراً بعد حدوث أية مجزرة على الأرض الفلسطينية، لكنني رأيت أن الانتظارَ قد يطول ولن يأتيَ ما كنت أتوقعه.
واليوم وعن طريق الصدفة وأنا أتصفح مجلة العربي في عددها (515) للعام 2001م، قرأت ليوسف القرضاوي قوله: “قلت لمن صافح بيريز سفاح قانا أن يغسلَ يديه سبع مرات إحداهن بالتراب، وأقول لمن صافح ويصافح الجزار شارون سفاح صبرا وشاتيلا، اغسل يديك سبعين مرة”، كما قرأت لغيره ممن تكلموا عن فلسطين، ولكن أين هؤلاء وأمثالهم اليومَ وما هي مواقفهم من بيع فلسطين لليهود وبدعم عربي؟!
يبدو أنّ الأمةَ بالفعل قد نُكبت في دينها وقيمها ومبادئها، ولم تعد لديها غيرة لا على أرضها ولا على عرضها، وأنّ ترامب لم يعلن عنها إلّا وهو مدرك كما يدرك ذلك اليهود من حوله، بأنّ حروبَهم التي شنوها على الأمة وبكافة أشكالها وأنواعها وخَاصَّة حربَهم الناعمة، قد أتت ثمارها، وأنّهم استطاعوا أن يسلخوا أغلبَ أبنائها عن دينهم وقيمهم ومبادئهم، ليعود الإنسان ليس كما قيل عنه (حيوان ناطق) وحسب، بل أصبح أسوأَ من الحيوان (أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلّ)؛ لأنّه سُلب الإرادة والقرار، وفقد حتى التفكير السليم بالعقل الذي ميّزه اللهُ به عن سائر المخلوقات وكرمه عليها، وفقد نزعة الدفاع عن النفس التي أودعها اللهُ في كثير من مخلوقاته، فخالف بذلك السنن الكونية والإلهية التي سنّها اللهُ في الكون والحياة.
فقد حان اليوم الذي انتظره اليهود؛ لكي ينتزعوا كُـلَّ يوم منا شيئاً ونحن نشاهدُ ما يحدُثُ ولا نكاد نحرك ساكناً؛ لأنّهم عرفوا نقاطَ ضعف هذه الأمة، وكما قالت (جولدا مائير) رئيسة الوزراء الإسرائيلية عندما أحرق يهودي أسترالي الجنسية يُدعى (دينس مايكل) المسجد الأقصى من باب المغاربة في 21 أغسطُس 1969م: “لم أنم ليلتها وأنا أتخيّل العرب سيدخلون فلسطين أفواجاً من كُـلِّ صوب، لكني عندما طلع الصباح ولم يحدث شيء، أدركت أن باستطاعتنا فعل ما نشاء، فهذه أمة نائمة”.
والآن وبعد مضي أكثر من خمسين عاماً على هذا الحدث، لم يعد الصمت هو الصفة السائدة على أغلب المسلمين، بل تعداه إلى عقد العلاقات والمؤتمرات والتطبيع مع العدو، والأدهى من ذلك وصف حركات المقاومة بالإرهابية، وحرمة الدماء اليهودية، وأخيراً مباركة صفقة العار، التي تزامن معها إرسالُ الصلوات على الأرواح اليهودية التي هلكت في المحرقة المزعومة بـ(الهولوكوست)، وهي الذريعة التي من ورائها احتلت الأرض وانتهكت الأعراض.
بالطبع من يظن أنّ الأطماعَ اليهودية سوف تقف عند هذا الحد فهو واهم، بل ستمتد إلى كُـلِّ البقاع، ولن ينجوَ منها حتى من صلى على أرواحهم الهالكة، وأعلن الطاعةَ والولاءَ على عتباتهم.
ففي الحين الذي يواجه فيه أحرارُ بلدنا تحالف عدوان غاشم تكوّن من عشرات الدول وعلى رأسها أمريكا وإسرائيل، وحقّق اللهُ على أيديهم من الانتصارات ما لم يخطر للعدو ومرتزِقته على بال، وآخرها عملية البنيان المرصوص، نرى في المقابل من يزيد انبطاحاً وذلاً وهواناً أمام هذه القوى التي تسعى لتدمير الأمة وإبادتها، وتقديم فلسطين قربانا يتقربون به لليهود وأعداء الأمة.
ولن يُخرج الأمة مما هي فيه إلّا العودةُ لدينها وقيمها ومبادئها، وقادتها من أعلام الهدى، ولن يحرّرَ الأرض سوى المجاهدين المخلصين في محور المقاومة والأحرار في كُـلِّ البلدان الإسلامية، الذين أخذوا على عاتقهم الدفاعَ عنها وعن مقدساتها.