طفولتي والحرب!
خولة العُفيري
“دُميتي” الفاتنة التي كانت تفتنني عندما أنظر إليها سلبها الحربُ مني، واليوم يكتسيني الحزن وهي تحت الأنقاض، لم أستطع رؤيتها مجدداً وقد دفنها سقف منزلنا ذات ليلة.
نعم سلبت الحربُ مني أشياءَ لا يمكنُ استرجاعُها، سلبت مني أشيائي الجميلة، بدايةً من “طفولتي” التي لم أحمل منها سوى أمنياتي وأحلامي التي كنت أتتوق لليوم الآتي أن تصبح واقعاً عندما أكبر في يومٍ ما.
سلبت مني صديقاتي، كُتبي، مدرستي، وكل شيء أحبه، تلاشى بوجودها وتدمر رويداً رويداً وأمام عينَيَّ.
سلبت مني عائلتي التي كانت تجمعني بهم مائدة طعام واحدة، واليوم تجمعني بهم موائدُ الدماء.
تبعثرت أوراقُ كتبي وأنا لا أستطيعُ جمعَها، فصديقاتي التي لم تستطِع معلمةُ “الصف” أن تفرقني عنهم لحصةٍ واحدة، استطاعت غارةٌ نتنةٌ أن تفرقنا إلى الأبد.
مدرستي التي احتضَنت مواهبي وكنت أصنعُ طائرةً ورقية بأوراق ملونة، طائرة آمل أن تطيرَ يوماً ما بأحلامي وترتفع بنا عالياً، لكن بالمقابل أتت طائرة العدوان لتطاير أحلامي من الوجود بشرارات عتوها، فهدمت مدرستي وطيّرت أشلاء زميلاتي وبعثرتها في كُـلِّ الأرجاء.
والدي الذي لم يفارقني للحظة، يداعبني تارةً ويلاعبني ويمسك بيدي تارةً أُخرى، نذهب معاً لشراء حاجياتنا.
يقرأ لي رواية قبل نومي عن ذلك البطل الذي ذهب لمقارعة الأشرار ولم يعد، وما علمت بأن أبي سيصبح بطلَ الرواية التي تعنونت بذهابه بلا عودة.
حتى الحساء اللذيذ الذي كانت تعده لي أمي لأتناوله كُـلَّ ليلة، أصبحتُ لا أتناوله إلّا بضع مرات لعدم توفر مكوناته، وأزمةٌ أُخرى في أسطوانة “الغاز” والذي لا يتوفر الحساء إلّا بتوفرها كما أخبرتني أمي.
كما أن الحرب غيرّت والدتي كثيراً، فعندما أتكلم عن الخروج من المنزل ذاهبةً إلى رحلةٍ ما، ترفض باستمرار قائلة عند ذهاب “الحرب”.
وَالآن أدركتُ “لِمَ لا!”، لا؛ لأَنَّهُ بالقرب منّا، ذهب كوكبة من طلاب الحي إلى رحلة ولم يعودوا منها؛ ولأنهُ إذَا خرجنا من منزلنا سنموت في الطريق أَو تسرق الحرب منزلنا كما سرقت منازل جيراننا بنيرانها.
أتساءلُ لِمَ كُـلّ هذا الحقد من الحرب علينا؟ ماذا جنينا لتصنع بنا كُـلّ هذا، لماذا أتت ومتى سترحل؟!
مرت الأيّام ونحن ننتقل من منزل إلى منزل آخر لا نجد فيه الحرب، ولكنها في كُـلّ منزل.
لتذهبي أيتها الحرب، لتذهبي بعيداً فأنا أكرهك، فقد سلبتِ أبي مني.
لتذهبي بعيداً فلقد اشتقت إلى دُميتي الفاتنة وحسائي اللذيذ.
لتذهبي وتعود إلي دُميتي وابتسامتي المسروقة مني منذُ قدومها في يومها الأول وإلى هذا اليوم، الذي لم يبقَ شيءٌ جميلٌ إلّا وكان محوره الخوف علينا من الحرب.
كما إن لديَّ إحساساً بأن ذلك سيتحقّق قريباً ستذهب الحرب بعيداً، بعد أن يتمَّ دحرُ الأعداء ويتم تحرير كامل تراب الوطن من رجس الاحتلال.