محطاتٌ من الاستهداف الأمريكي المبكّر لليمن
كيف استخدمت واشنطن نظامَ “صالح” كأداة لإضعاف اليمن وتدميره؟!:
المسيرة | تقرير
ما كشفته الأجهزةُ الأمنيةُ قبلَ أيّام من معلومات ومشاهدَ فضحت تآمُــرَ النظام السابق مع الولايات المتحدة في تدمير الدفاعات الجوية اليمنية، أكّـد أن مباشَرةَ العدوان على اليمن في مارس 2015، كانت امتداداً لسلسلة طويلة من المؤامرات الأمريكية التي ظلت لوقت طويل تتوغلُ داخل اليمن سياسيّاً وعسكريًّا؛ بهَدفِ إضعافه تَمَاماً، في مخطّط كانت أبرز ملامحه تدمير أية قدرة عسكريّة قد تحول دون هذا المخطّط، بالتوازي مع تحويل البلد إلى ساحة للجماعات التكفيرية الاستخباراتية التي تنهكُه، بينما يخضعُ لسلطة مرتهنة بالكامل لواشنطن التي أعدت كُـلَّ هذا لتأتيَ هي في النهاية كـ “مخلِّص” وتسيطر على اليمن تَمَاماً تحت شعار “محاربة الإرهاب”.
وفي هذا الإطار، فإن مؤامرةَ تدمير الدفاعات الجوية اليمنية، كانت هي الأُخرى نتيجةً لخطوات سابقة ممهِّدة، كشفت التوجُّـهَ الأمريكي نحوَ تدمير اليمن وإضعافه وإركاعه منذ وقت مبكر، والشواهدُ على ذلك كثيرة.
بوابةُ الاستهداف الأمريكي لليمن:
في الفصل الأول من كتابه “صعدة.. الحربُ الأولى”، يرصُدُ الأُستاذ “صبري الدرواني” عدةَ محطاتٍ مهمة من بدايات الاستهداف الأمريكي المباشِر والواسع لليمن، ويوضحُ أن الولايات المتحدة استخدمت حادثةَ “المدمِّرة كول” في 12 أكتوبر 2000 كذريعةٍ رئيسيةٍ للبدء في ذلك الاستهداف.
بالنظر إلى هذه الحادثة اليوم وما أحاط بها من ظروف، وكيف كانت كواليسها، نخلُصُ إلى أنها بالفعل كانت ذريعةً وبوابةً للاستهداف الأمريكي الواسع والمباشر لليمن، فحينها سارَعَ الرئيسُ الأمريكي، بيل كلينتون، للتصريح بأن الهجومَ “ليس فقط على أمريكا بل على العلاقات بين البلدَين”، وهو ما يمكنُ قراءتُه اليومَ -وفقاً لقاموس السياسة الأمريكية-، كمحاولة واضحة لشرعنةِ التدخُّلِ الأمريكي الواسع في اليمن، وابتزاز خضع له نظام “صالح” بسهولة.
أمَّا الكواليسُ فقد كانت أكثرَ وضوحاً في كشف تلك الذريعة، إذ يؤكّـد الكتاب أن “ضابطةَ الاستخبارات الأمريكية، سوزان لينداور، أكّـدت في لقاءٍ لها على (قناة روسيا) حقيقةَ حادثة تفجير المدمّرة كول بقولها: في الليلة التي سبقت تفجيرَ (USS Cole) سحب الأمريكيون الحراسةَ عند هذه السفينة أي أنهم تركوا السفينة بدون حماية، هذا رغم أنهم علموا مسبقاً بالإعداد لتنفيذ عمل “إرهابي” في ميناء عدن، وكانوا على علم بأن الهدفَ هو مدمّرةٌ عسكريّةٌ أمريكية، وبالطبع كانت (USS Cole) هي الهدف رقم (1) كما تقول فقد بلّغت (السي آي أيه) ووكالة الأمن القومي الوحدات الأمريكية في اليمن بالهجوم المرتقَب، فقام هؤلاء بسحب الحراسة؛ لأَنَّهم -أي الأمريكيين- كانوا يريدون إرسالَ قواتهم إلى السواحل اليمنية، فهم يحتاجون إلى ذريعة الولايات المتحدة؛ لذا فقد سمحوا بأن يتم تفجيرُ (USS Cole)”.
توغُّلٌ سياسيٌّ عسكريّ:
مع مجيء أحداث 11 سبتمبر واستهداف أفغانستان والعراق، كانت الولاياتُ المتحدة قد جعلت من عنوان “الإرهاب” شبحاً تخوِّفُ به العالم، وبالذات دول الشرق الأوسط، وبالتالي منحت عنوانَ “مكافحة الإرهاب” شرعيةً قَسْريةً للتوغل في المنطقة وتشكيلها عسكريًّا وسياسيّاً بحسب ما تريد؛ لأَنَّ أيةَ مخالَفةٍ لذلك ستكونُ “إرهاباً”، وفي اليمن أبدى نظامُ “صالح” خضوعا كاملاً لتلك “الشرعية”، ويبدو أن حادثة “المدمّرة كول” كانت قد ضمنت ذلك منذ البداية، وظهر ذلك بوضوح في عدة محطات كشفت أن المغزى الحقيقيَّ من عنوان “مكافحة الإرهاب في اليمن”، هو تحويلُ اليمن إلى “بلد إرهابي” وتفكيك قدراته العسكريّة وتسليمه للولايات المتحدة.
من تلك المحطات، والتي رصدها كِتابُ “صعدة.. الحربُ الأولى” أيضاً، زياراتٌ وتحَرُّكاتٌ عسكريّةٌ مكثّـفة، ظهر فيها نظامُ “صالح” بشكل فاضح كمرتزِق تابعٍ للولايات المتحدة، كما ظهر في مشاهد تدميرِ الدفاعات الجوية، ففي إبريل من عام 2000، ذهب صالح إلى الولايات المتحدة ليؤكّـدَ لـ “كلينتون” الانضواءَ تحتَ رايةِ “مكافحة الإرهاب” على الطريقة الأمريكية، وانكشف الثمنُ الذي استلّمه صالح سريعاً عقبَ الزيارة من خلال الإعلان عن “زيادة المساعدة الأمريكية إلى 50 مليون دولار”.
بعدَها بشهر (في مايو 2000)، وصل الجنرال زيني -قائد القوات المركزية الأمريكية- إلى صنعاء؛ لبحث “التدريبات المشتركة” ثم تبعه (في أكتوبر) الفريق أول توماس فرانكس -قائد القيادة المركزية في القيادة الأمريكية- على رأس وفد عسكريّ أمريكي؛ لبحث “التعاون العسكريّ”.
وفي 2001، عاد صالح إلى الولايات المتحدة مجدّداً ليعطيَ ذات البيعة لـ “بوش”، والتي أفضت إلى طلب أمريكي يسمحُ لقواتٍ من “المارينز” بالعمل في اليمن تحتَ ذريعة “مساعدة قوات الأمن اليمنية لتعقب المتهمين بانتمائهم إلى تنظيم القاعدة”.
وبحلول عام 2002 كانت السلطةُ نفسُها تقر بوصول مدربين أمريكيين إلى اليمن، تحت ذريعة “تدريب القوات الخَاصَّة”، فيما أكّـد وقتَها الجنرالُ تومي فرانكس -قائد القوات المركزية الأمريكية في مجال مكافحة الإرهاب- أن “صالح” قد أبدى استعدادَه “لتقديم تسهيلات في ميناء عدن للسفن الأمريكية مقابل التعاون اليمني – الأمريكي في مجال مكافحة الإرهاب”.
لقد كان مسلسلاً واضحاً ومكشوفاً من إجراءات الوصاية والارتهان، ولم يكن عُذْرُ “مكافحة الإرهاب” كافياً أبداً لتبريرها، لكن نظام “صالح” كان قد حمل على عاتقه مهمةَ تكريس هذا التبرير السخيف بكل الطرق، والتي على رأسها استهدافُ وتشويهُ كُـلّ من يحاولُ معارضتَه.
ومما يؤكّـد أن هذه الزيارات والتحَرّكات الأمريكية المكثّـفة كانت بهَدفِ إضعاف اليمن والسيطرة على قرارها وقدراتها، نشاطات السفير الأمريكي في اليمن، “إدموند هول” كشفت بوضوح خضوع النظام السابق للإدارة الأمريكية وأهدافها، إذ كان “هول” يتصرف كحاكم فعلي، وليس سفيراً، وهو المنهج الذي سلكه فيما بعدُ بقيةُ السفراء الأمريكيين في اليمن.
نفّذ “هول” زياراتٍ مكثّـفةً هو الآخرُ داخلَ المحافظات اليمنية ركَّزت على المناطق ذات الامتداد القبلي ومناطق الثروات (صعدة، مأرب، الجوف، حضرموت)، مفتتِحاً فيها مراكِزَ ومشاريعَ أمريكية استخباراتية، وموزعاً مبالغَ مالية كبيرة على السلطات المحلية للنظام في تلك المحافظات.. لقد كان يهيِّئُ الوضع بوضوح، ويلم بقدراتِ اليمن وممتلكاته ومفاصل نظامه الهش، مقدماً بذلك المعلوماتِ الوافيةَ لإدارته التي كانت تكثّـف تحَرّكاتها ونشاطاتها العسكريّة بالمقابل.
نزعُ وتدميرُ السلاح:
وفي مارس 2004، كشف “هول” عن حقيقة زياراته ونشاطاته، في مشهدٍ يشبهُ ما رأيناه قبل أيّام من مشاهد تدمير الدفاعات الجوية، إذ وصل “هول” إلى صعدةَ بنفسه لشراءِ الأسلحة التي يمتلكُها الناسُ في المحافظة بمختلف أنواعها، وبأسعارٍ كبيرة، أدَّت إلى ارتفاع كبير في قيمة الأسلحة والديناميت، ونُدرتها بشكل كبير، وبحسبِ كتاب “صعدة.. الحرب الأولى”، فقد كانت هناك اتّفاقيةٌ بين السعوديّة والولايات المتحدة على أن تدفعَ المملكةُ قرابةَ مليارَي دولار؛ لسحبِ السلاح من السوق اليمنية، كما أجرى “هول” مفاوضاتٍ مع تجّار الأسلحة اليمنيين لشراء كُـلِّ ما يتملكونه، وبالذات في صعدة.
ولم تمضِ فترةٌ طويلةٌ حتى أطلق نظامُ “صالح” الحربَ الأولى على صعدة نفسِها التي اشترى السفيرُ الأمريكي أسلحتَها؛ لينكشفَ بذلك جزءٌ كبيرٌ من كواليس التوغُّل الأمريكي في اليمن، والمتمثل بتدمير ونزع أية وسيلة يمكن أن يستخدمها اليمنيون “كشعبٍ” لمقاومة الاستهداف الأمريكي.
أمَّا نظامُ صالح، فلم يكن هناك ما تخشاه الولاياتُ المتحدة منه، ولذلك لم تضطرْ لشراءِ أية أسلحة يمتلكُها، بل أرسلت إليه موظفتَين تدخنان السجائرَ، بينما يقوم “عمّار صالح” بتلغيم صواريخ الدفاع الجوي.