الحركةُ الصهيونية ووعد بلفور
أنس القاضي
ظهرت القضيةُ الفلسطينيةُ بأبعادها الدولية والإقليمية والوطنية إلى الوجود، منذ أعلنت بريطانيا تصريحَ بلفور المشؤوم في 2-11- 1917م، وأعقبته باحتلالها فلسطين عسكريّاً وممارسة حكمها الاستعماري بعد انتهاء الحرب بموجب فرض الانتداب الذي أقرته عُصبةُ الأمم سنة 1922م.
عملت الحركةُ الصهيونية بشكلٍ دَؤوبٍ منذ نشأتها رسمياً سنة 1897 على التقليل من شأن الشعب العربي الفلسطيني ونُكران وجوده في بعض المراحل عملها السياسيّ، فرفعت الشعارَ المعروفَ “شعبٌ بلا وطن ووطنٌ بلا شعب”.
وتعد الصهيونية حركةً سياسيّةً استعماريةً عُنصريةً مغلفةً بروايات دينية توراتية محرَّفة، ترمي إلى إقامَة دولة قومية لليهود في فلسطين.
اشتق مفهوم الصهيونية من اسم جبل “صهيون” الموجود في القدس وفق الرواية التوراتية..، فوفق تلك الرواية، بنى نبي الله داوود قصرَه في بيت المقدس بعد انتقاله من الخليل، وذلك في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، مما يجعل من اسم صهيون رمزاً يدُلُّ على مملكة داوود ويهدفُ إلى إعادة تشييد هيكل سليمان المزعوم، بحيث تكون القدس عاصمةً أبديةً لليهود، كما وعدهم بها مؤخّراً الرئيس الأمريكي دولاند ترامب.
ارتبطت الحركةُ الصهيونية الحديثة بشخصية اليهودي النمساوي “تيودور هرتزل” الذي يُعَدُّ الداعيةَ الأولَ للفكر الصهيوني والمنظِّرَ الرئيسي للحركة الصهيونية العالمية، على الرغم من أنه شخصيةٌ عِلمانية، ويعترفُ هرتزل بأنه لا يؤمنُ بالتوراة ولكنه مشدودٌ إلى تأثيرِ الأُسطورة التوراتية عن أرض الميعاد لدى اليهود.
إلى جانب إدراك بريطانيا للأهميّة الاستراتيجية لفلسطين في توطيد مصالحها الاستعمارية في المشرق العربي، فقد كان للخلفية الدينية المؤمنة بقصص العهد القديم وتفسيراته العبرانية لدى كُـلٍّ من “لويد جورج” رئيس الوزراء البريطاني و”آرثر بلفور” وزير خارجيته دورٌ هامٌّ، فقد كان لهذه الدوافع الدينية أثرٌ في تحريك مواقفهما السياسيّة نحوَ إصدار وعد بلفور، الذي كان أولَ اعتراف دولي بالصهيونية السياسيّة وبمشروعها في إقامَة دولة قومية لليهود في فلسطين.
تكمُنُ أهميّةُ وعد بلفور -من وجهة نظر صهيونية سياسيّة- في الاعترافِ بفرضية وجود شعب يهودي كشعب واحد له قوميةٌ واحدةٌ يتألفُ من بشر من عدة بلدان وأعراق وألوان مختلفة. تم الاعتراف الدولي بفرضية وعد بلفور بعد أن تم تجسيده على الواقع، في عملية الانتداب الانكليزي في فلسطين، وبعد إقراره في مؤتمر سان ريمو 1920، وضمان عُصبة الأمم المتحدة له، في عام 1922م وبدء عملية تهجير اليهود إلى فلسطين.
تبنَّى وعدُ بلفور وجهة النظر اليهودية الصهيونية حين أنكر وجود شعب عربي في فلسطين. وقد أشار وعدُ بلفور إلى العرب في حديثه عن وجود طوائفَ غير يهودية مقيمة في ما أسماه بأرض الميعاد. والتقى وعدُ بلفور مع التفسيرات الصهيونية المسيحية وقناعتها منذ حركة الإصلاح البروستستاني بأن فلسطين وطنٌ يهودي؛ فقد جاء وعدُ بلفور خالياً من ذكر عروبة الأرض والسكان فيها من المسلمين والمسيحيين العرب. وشدّد وعدُ بفور بأن مستقبلَ فلسطين سيكون دولةً لليهود، وبهذا الوعد تكون الصهيونية المسيحية الأوربية قد جسدت أطروحاتها الدينية عمليا بادئه مرحلة جديدة من التعاون الوثيق بينها وبين المصالح الامبريالية الغربية.
يعتبر جون آدمز أول رئيس أمريكي دعا إلى استعادة اليهود لوطنهم المفترض وإقامَة حكومة مستقلة، وقد كتب آدمز رسالة إلى لصحفي الصهيوني مانويل نوح عام 1818 يقول فيها: “أتمنى أن أرى ثانية أمه يهودية مستقلة في يهودا”.
ويُعد الرئيس الأمريكي ولسون أحدَ الرؤساء الأكثر تأثراً بالصهيونية، وقد ظلت موافقةُ الرئيس الأمريكي ولسون على مشروع وعد بلفور طي الكتمان؛ بسَببِ موقف الولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الأولى، إلا أنه حينما بدأت تظهر نتيجة الحرب العالمية الأولى كشف ويلسون عن موقفه، قال في أغسطُس 1928: “أعتقد أن الأمم الحليفة قد قرّرت وضعَ حجر الأَسَاس للدولة اليهودية في فلسطين بتأييد تام من حكمتنا وشعبنا”..
وقد أصدَرَ مجلس النواب الأمريكي في 30 يونيو 1922 قراراً جاء فيه: “نؤيدُ إعطاء بني إسرائيل الفرصةَ التي أُنكرت عليهم طويلاً لإعادة تأسيسِ حياة يهودية وثقافةٍ مثمرة في الأرض اليهودية القديمة”.
وفي 12 سبتمبر 1922، صادقت الحكومةُ الأمريكيةُ بصورة نهائية على وعد بلفور. وبذلك دخلت أمريكا شريكاً منافساً مع بريطانيا في فلسطين، لبناء الوطن القومي اليهودي المزعوم؛ ولضمانِ المصالح الحيوية الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط.
الترابُطُ بين الصهيونية والامبريالية الأمريكية وطيد ويعودُ إلى هيمنة اللوبي الصهيوني على الإدَارَة الأمريكية. ففي سبعينيات القرن الماضي أصدَرَت الجمعيةُ العامةُ للأمم المتحدة قراراً يحمِلُ رقم 3151 يدينُ الأفكارَ الصهيونية ويعتبرُها أيديولوجية عُنصريةً ويجرِّمُ تحالفَها مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا آنذاك، ولم يستمر هذا القرارُ طويلاً، فمن بعد انهيار المعسكر الاشتراكي وتربُّع الامبريالية الأمريكية على عرش العالم، أصدَرَت الجمعية العامة للأمم المتحدة في 11-12-1991م قراراً يلغي قرارَها السابقَ الذي اعتبر الصهيونية دعوةً عُنصريةً.