سِــــرُّ الظهور
يحيى المحطوري
“أليست هذه صرخةٌ يمكنُ لأي واحد منكم أن يطلقَها؟. بل شرفٌ عظيمٌ لو نطلقُها نحنُ الآنَ في هذه القاعة فتكونُ هذه المدرسة، وتكونون أنتم أولَ مَن صرخ هذه الصرخة التي بالتأكيد -بإذن الله- ستكونُ صرخةً ليس في هذا المكان وحدَه، بل وفي أماكنَ أُخرى، وستجدون مَن يصرُخُ معكم ـ إن شاء الله ـ في مناطق أُخرى:
[الله أكبر/ الموت لأمريكا / الموت لإسرائيل/ اللعنة على اليهود / النصر للإسلام]”.
قالها وبكل ثقة، من قلب مرّان، قبل حوالي ثمانية عشر عاماً..
ورغم تلك الظروف القاهرة التي أحاطت به من سَطْوَةِ النظامِ الإجرامي المتغطرس، وجفوة الأقربين، وخذلان المجتمع وغفلته وقصور وعيه.
أطلقها مدويةً، صرخة حَـقّ إيمانية قرآنية، ورفعها عنوانا لمشروع ثورة يمنية المنبع إيمانية الهُــوِيَّة، إسلامية الأصالة مبادئَ وقيماً وأخلاقاً.
لم يكن حينها يمتلكُ أدنى مقوماتِ النهوض والمواجهة.. لكن هذا المشروع واجه كُـلّ الصعوبات والتحديات وتجاوزها في كُـلّ المراحل.
من قلبِ المعاناة، وعمق الاستضعاف وُصُولاً إلى مرحلة الاستخلاف، ومسؤولية التمكين.. حقّق المشروع القرآني انتصاراته المتتالية على مدى السنين، يحمل راياته الخفّاقة من يمن الإيمان رجال أُباة، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر وما بدّلوا تبديلا..
وبعدَ قرابة عقدين من الزمن تُحلِّقُ أسئلةٌ كثيرة في رؤوس العرب المذهولين من صدى انتصارات هذا المشروع المحارب من كُـلّ العالم..
ما هو سر هذا الظهور الطاغي رغم كُـلّ ما حصل؟
ما هي عواملُ الانتصار التي تفرَّدَ بها هذا المشروعُ حتى يواصلَ صعودَه المستمرّ بهذه الطريقة الفريدة؟
وستتزايد الاستفهامات المتكرّرة، التي تصنعها عواصف التغيير المتسارع في اليمن، وأرقام الانتصارات الهائلة التي تحقّقت على مدى الأعوام الماضية.
ولا يمكن لكل المحللين والمراقبين والمفسرين، الإجابة عليها إلا إذَا أعادوا النظر ودققوا التأمل جيِّدًا في موضوعين رئيسين للنقاط التالية:
أولاً: مواصفات القيادة اليمنية التي صدعت بالحق، ونهضت بالمسؤوليةِ في أقسى الظروف وتغلبت بحكمتها على أصعب التحديات.
ثانياً: خصائص وسمات المشروع القرآني الذي يحملُه الشعبُ اليمني ويسير وفق منهجيته الفريدة وهُــوِيَّته الأصيلة.
وفي الحديث عن المحور الأول لن نتطرق إلى مواصفات السيد القائد عبدالملك الحوثي يحفظه الله؛ لأَنَّ شهادة الأحداث عليها ماثلة طوال فترة الثورة ومواجهة العدوان.
بل سنحاول تسليط الضوء على نقاط أَسَاسية في شخصية القائد المؤسّس الشهيد المقدس / حسين بدر الدين الحوثي -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-.
فقد كان قائداً استثنائياً ومرشداً قرآنياً، رجلَ دين وسياسة، يجسُّد في شخصيته مواصفاتِ المسلم الحقيقي وصفات المتقي الواعي، التي تحدث عنها القرآن الكريم في أرقى المستويات التي يمكن أن يصل إليها الإنسان.
كان قائداً يحمل وعياً كاملاً بخطورة المرحلة وما يجب عمله في مواجهة هذه الخطورة، برؤية شاملة لا ينفصل فيها التحَرّك الديني عن الموقف السياسي الناتج عن ذلك التحَرّك أَو الذي يمثل انعكاساً له.
كان قائداً يحمل إدراكاً كاملاً لكل أسباب الانتصار ولكل عوامل الهزيمة من منظور قرآني يعكس التجارب التي عرضها الله في كتابه الكريم؛ لذلك فهو يملك رؤيةً عسكريّةً عميقةً، ويعرف أهميتها وانعكاساتها على الواقع السياسي وقدرة كُـلّ جانب في التأثير على الجوانب الأُخرى.
فالسيدُ حسين كان قائداً عظيماً يحمل كُـلّ مواصفات القيادة الحكيمة، والمتأمل لمشروعه الفكري والثقافي الذي استطاع أن يبني أُمَّــة قرآنية قدمت شاهداً على عظمة دين الله وعلى حكمة القرآن ومواقف القرآن، يجدُ كيف كان طرحُه شاملاً وتشخيصه دقيقاً لكل الأسباب التي أدت إلى انحطاط الأُمَّــة، وكيف قدم الحلول القرآنية لاستنقاذ الأُمَّــة من هذا الانحطاط، على كُـلّ المستويات الأمنية والعسكريّة والاقتصادية والسياسية والدينية، في تحَرّك جهادي شامل يعزز بعضه حضور البعض الآخر، ويشكل كُـلّ جانب من جوانبه، حلا عمليا للجانب الآخر في كُـلّ المعوقات أَو الصعوبات التي من المحتمل أن تواجه هذا المشروع في صراعه مع الاستكبار العالمي.
تحَرّك الشهيد القائد من دافع الشعور بالمسؤولية لمواجهة الخطر المحدق بالأُمَّة، الذي ظهرت تجلياته في ما صنعته أمريكا من جرائم إهلاك للحرث والنسل سقطت ضحيتها شعوب مستضعفة وانهارت أمامها جيوش ودول وأنظمة، والشواهد على جرائمها ملأت الآفاق حتى وصلت إلى شعبنا اليمني المظلوم الذي يعاني من جبروتها وطغيانها منذ خمسة أعوام قتلاً وتجويعاً وحصاراً.
وعلى الرغم من استشهاد هذا القائد العظيم في الحرب العدوانية الأولى في العاشر من سبتمبر لعام 2004م الموافق 26 من رجب لعام 1425هـ، إلا أنه قد أرسى دعائم المشروع القرآني وبنا ركائزه الأَسَاسية التي جعلت منه ومن حملته نواة قوية صنعت الثورة اليمنية التي تواصل تحقيق انتصاراتها في تغيير الواقع اليمني إلى الأفضل وجعلت من اليمن المستضعف فاعلا مؤثرا على الصعيد الإقليمي والدولي.
ومن هنا ندخل إلى الحديث عن المحور الثاني الذي قد يجيب على الكثير من التساؤلات، فمن يتأمل خصائص المنهج القرآني الذي قدمه الشهيد القائد -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ-، يجد أنه اعتمد على محورية النص القرآني في الطرح والاستدلال وفي كشف الحقائق الأمر الذي جعله واقعيا ومقنعا ومؤثرا ومنسجما مع الواقع.
لقد قدم -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- لأمته مشروعاً تصحيحياً حرّرها من قيود الثقافات المغلوطة المتراكمة على كاهل أبنائها منذ عقود من الزمن، حتى شكلت عائقا كبيرا عن قدرتهم على التوحد فيما بينهم، وبرّرت لهم القعود عن الجهاد في أحيان، وحرفت مسارات الجهاد نحو البوصلة الأمريكية في أحيان أُخرى.
وكشف حجب القداسة الزائفة عن الموروث الديني الخاطئ الذي عزل القرآن جانباً وحال دون استفادة الأُمَّــة من هداه العظيم وثقافته الحكيمة في صناعة رؤاهم ومواقفهم الصحيحة في مواجهة الأحداث والتحديات.
قدم -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- مشروعَه التنويري الذي يؤسّس لبناءِ الأُمَّــةِ على أُسُسٍ علمية تخرجهم من ظلمات الجهل إلى نور المعرفة بسُنُنِ الله التي هيَّأها لعباده وأمرهم بتسخيرها في طاعته وفي إقامة دينه، وقد كان لهذا الأمر أثرُه العظيم في صناعة عزائم قوية لشباب اليمن في الابتكار والتصنيع وكسر حالة الحصار العدواني المفروض على اليمن إلى أن وصلوا إلى أولى مراحل الردع للعدو بقدراتهم الذاتية وخبراتهم اليمنية.
قدم لأمته مشروعاً يبني الإنسانَ في أخلاقه وقيمه، ومعارفه ووعيه، وفي مهاراته وقدراته العملية، ولم يغفل عن كُـلّ جوانب التربية والتزكية الروحية والإيمانية، معتمداً في ذلك كله على القرآن الكريم.
وعلى الرغم من كون المشروعِ القرآني الذي قدمه نهضوياً، يطمحُ إلى التغيير ويسعى بأبناء الأُمَّــة حثيثا نحو الخلاص من هيمنة الطاغوت واستبداد المجرمين، فقد كان أَيْـضاً واقعيا، ينطلق في بناء التحَرّك العملي على معطيات حقيقية ويتدرج بهم في خطوات ممكنة يستطيعون من خلالها دفع عجلة التغيير بطريقة دائمة ومستمرّة، وُصُولاً إلى تحقيق التغيير المنشود، بالتحرّر والانعتاق من الهيمنة الأمريكية التي أفسدت كُـلّ المنطقة واستعمرتها واستبدت بثرواتها وأبادت شعوبها.
وقد كان مشروعه -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- حضارياً بنَّاءً، يعمر الحياة ويؤسِّسُ لبناء مستقبل متين وقوي معتمد على العلم والعمل والنضال والجهاد في كُـلّ المجالات، مما أسهم في خلق قناعات كبيرة لدى الكثير من أبناء اليمن أن لديهم القدرة على البناء والتطوير والتغيير، وهو من أبرز عوامل الصمود أمام آلة القتل والحصار العالمية، ومن أبرز عناصر القوة في المواجهة العسكريّة أيضاً.
وحين أرسى -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- دعائم هذا المشروع، لم يؤطره بحزب معين أَو حصره في منطقة دون أُخرى، بل جعله منطلقا من أصالة الهُــوِيَّة الجامعة لكل أبناء الأُمَّــة، مستفيداً من كُـلّ عناصر الوحدة الإيمانية، حيث جعل القرآن منهجاً حاكماً، ونبي الإسلام رمزاً، ومقدسات الإسلام معالم أَسَاسية يجتمع عليها كُـلّ المسلمين ليس في اليمن فحسب، بل في كُـلّ أقطار الدنيا، ولهذا استطاعت اليمن أن تبني جبهتها الداخلية القوية انطلاقا من هذه القضايا الجامعة، وواجه اليمنيون كُـلّ طواغيت الأرض رغم اختلاف أحزابهم وطوائفهم وفئاتهم، ولا يزالون بهذه القوة يحقّقون الانتصارات، وُصُولاً إلى تحرير كُـلّ أرضهم وكسر الحصار عن بلدهم وشعبهم.
ومن أبرز سمات هذا المشروع إحياؤه للشعور بالمسؤولية الدينية في نفوس أبنائه، وإحياء الروحية الجهادية لدى كُـلّ المنتمين إليه؛ ولذلك لم يستطع العدوُّ بآلته الحربية الهائلة وعتاده العسكريّ المتطور أن يكسرَ صمودَ شبابه المجاهدين في كافة خطوط المواجهات العسكريّة، وقدموا لكل العالم دروسهم العظيمة والخالدة التي ستدرس وتخلد لكل الأجيال القادمة.
وقد كان هذا المشروع متميزاً باستباقية الرؤية ومصداقيتها، مما جعل قادة اليمن هم الأقدرَ على فهم ملابسات المؤامرات الخارجية والتعامل معها بمصداقية كبيرة قدمت نموذجاً تفاوضياً راقياً، وبحكمة فائقة حالت دون أن تمُرَّ ألاعيب وحيل وخدع المنظومة العالمية عليهم في كُـلّ جولات الصراع.
لقد تمكّن هذا القائد العظيم من إحياء المفاهيم الإيمانية الواعية لدى أبناء الشعب اليمني، فانطلقوا مستبصرين وفق مبدأ الولاية الصحيحة الصادقة لله، والارتباط الوثيق بالإسلام ورموزه ومنهجه، يعون مسؤوليتهم في الصراع ويعرفون دورهم في مواجهته في كُـلّ مجال من مجالاته، وحقّقوا رغم كُـلّ ما قد لحق بهم من ظلم، التفرد في الكثير من الأساليب والمنهجيات الحكيمة في إدارة الصراع ومواجهة كُـلّ تحدياته.
لقد تمكّنَ الشهيدُ القائدُ -رِضْــوَانُ اللهِ عَلَيْهِ- من بناء الوعي بطبيعة الصراع مع أهل الكتاب في هذا الزمن كصراع شامل في كُـلّ المجالات، وليس صراعاً سياسياً فقط، وقدّم المشروع القرآني المتكامِلَ الذي استطاع أن يؤهِّـلَ أبناءَ اليمن للمواجهة في كُـلِّ المجالات أَيْـضاً.
لقد أثبتت الأحداثُ الماضيةُ كُـلُّها وشهدت شهادة قاطعة على عظمة الرؤية القرآنية الصائبة، والنظرة الإيمانية الثاقبة لهذا القائد العظيم.
وفي الختام، وباختصار شديد، فَإنَّ هذا القائد العظيم استطاع أن يجعلَ اليمنيين القوة الأبرز على صعيد الساحتين الإقليمية والدولية في المرحلة الحالية، وبنا عزيمة وإيمان كُـلّ أبناء اليمن وكوادره وجعلهم يصنعون من كُـلّ المعاناة مستقبلهم الأفضل إن شاء الله، وأن يواجهوا كُـلّ المشاريع الخارجية التآمرية، وأن ينجحوا في استيعاب كُـلّ الفرص المتاحة ليتقدموا بخُطَىً متسارعةٍ نحو الردع الكامل للعدوان وتحرير كُـلّ الأراضي المحتلّة وكسر الحصار الجائر، ويتقدمون بخُطَىً واثقة نحو الانتصار المحتوم والوصول ببلدهم إلى بر الأمان.