نهم.. أبواب المعارك المغلقة : “تأملات ميدانية”.. الحلقة الثانية
المسيرة| وهاب علي
عاصفة الانتفاخ
في فبراير 2016م لم يعد “عبدالله الشندقي” موظفاً بفرع شركة النفط بأمانة العاصمة فقط، صار الشندقي أَيْـضاً ناطقاً باسم الجناح المسلح لحزب الإصلاح – فرع صنعاء، وهو التشكيلُ الذي أطلق عليه حينها (مقاومة صنعاء وكان بقيادة الخائن منصور الحنق وشركائه)، ثم في فبراير من العام 2017م أصبح الشندقي -ذاته- ضابطاً برتبة عقيد وناطقاً باسم المنطقة العسكريّة السابعة (النسخة المقلدة)، حينها لم يدر في خلد ناطق النسخة المقلدة، أنه وحزب التنازلات المتهالك معنيون بالاتّعاظ من عبر الأولين ومصائر السابقين، قبل أن يصبحوا عبرةً لمن بعدهم وسطوراً من غبار ضمن روزنامة تاريخ نفس المكان.
كان الشندقي حينها مغيّبَ العقل كغيره من ميليشيا الإخونج تحت إمرة ضباط الدرعية وتحت سطوة “الحزميات” المنمقة وما شابهها، وكان كذلك منتشياً بانتصاره للمستكبرين والطواغيت، وَراح “ناطق السابعة” -في خضم سرديته التاريخية لشواهد مبتورة- يروي قصةَ البوابة الشرقية، وتحديداً ما حل هناك بجيش الرومان بقيادة جالينوس سنة 25 ق. م، يوم أراد احتلال أعالي اليمن بعد أن غزا مأرب، ومن مأرب “المحتلّة”، يمّم وجه جيشه الجرار غرباً وهناك في الفرضة وأخواتها تم إبادةُ معظم جيشه العرمرم.
وبعيداً عن “الشندقي”، كان تحالفُ العدوان الأمريكي السعودي من اختار مديرية نهم كمنطقة محورية للوثوب إلى معركة صنعاء المفصلية الحاسمة، وبالطبع تم ذلك الاختيار تبعاً لأسباب جيوعسكريّة مرتبطة بموقع المديرية المهم والقريب من العاصمة، على اعتبار أنها البوابةُ الآمنةُ والمثلى تبعاً لوعورة تضاريسها الجبلية والمزايا القتالية التي توفرها مرتفعاتها الشاهقة، وبالطبع لكونها على اتّصال جغرافي واسع بنصف الطوق القبلي المحيط بالعاصمة.
وبالنظر إلى طبيعةِ ذلك التلاحم الديموغرافي بين العاصمة ومحيطها، فَإنَّ تأثيراتِ الضغط على طوق صنعاء سيشمل العاصمة ذاتها؛ ولهذه الأسباب وغيرها تحَرّك العدوُّ مدفوعاً بيقينه التام بأن السيطرةَ على نهم ستكون بمثابة سيطرة جزئية على العاصمة مع استناده حينها إلى مجموعة من العوامل التي مثّلت بالنسبة له نقاط قوة مكّنته من احتلال البوابة الشرقية، وتتلخص أَهَــمُّ تلك العوامل في الدعم الخارجي الهائل والذي يشمل كُـلَّ الإمْكَانات العملياتية الأَسَاسية المساندة، وأنظمة الاستخبارات وَالمراقبة والاستطلاع عبر المنصات البرية والجوية والفضائية الداعمة للعمليات والأنشطة العسكريّة باستخدام الأقمار الصناعية، إلى الطائرات المأهولة مثل U-2 وَالـ OX، إلى أنظمة الطائرات بدون طيار مثل غلوبال هوك وَأم كيو-1 وأم كيو 9 وَبريداتور وهنتر الأمريكية، وغيرها من المعدات الأرضية والجوية والفضائية، وكذلك فرق الاستخبارات البشرية الميدانية، إضافةً إلى البيانات الاستخباراتية الأُخرى كالصور الضوئية وَالرادارية أَو بالأشعة تحت الحمراء أَو الإشارات الإلكترونية، وغيرها من التجهيزات والإمْكَانيات التي تزيد من فعاليةِ التنسيق وأنشطة الدفاع والانقضاض، فضلاً عن الإمْكَانيات المتعلقة بالمجالات التدريبية والتسليحية التقليدية وَالنوعية المهولة، والتي وفرت للعدو مزايا قتالية فارقة، أبسطُها على سبيل المثال قدرتُه على الاستفادة من وسائل النقل (بخلاف مجاهدي الجيش واللجان نظراً للاستهداف المتواصل)، إضافةً إلى الحرب النفسية الهائلة وبث الأكاذيب المتواصل واستمرار حالة التهويل الإعلامي الكبير والعمل التضليلي الواسع بواسطة ماكينات الإعلام الداخلي العميل بكافة أنواعه وَالخليجي والعالمي.
ومن نقاط وعوامل القوة التي امتلكها العدوُّ أَيْـضاً، بقاء مأرب كعمق استراتيجي آمن ومقر مستقر للقيادة والسيطرة مع وجود وفورات مالية ضخمة، وكلُّ ذلك أسهم بصورة أَو بأُخرى في إيجادِ محفزات نسبية دفعت باتّجاه ترتيب بعض مفردات الوضع العسكريّ، مثل إمْكَانية استقبال وتدريب واستيعاب المخدوعين من المرتزِقة الجدد، وكذلك ما تحقّق للخونة آنذاك في بعضِ مناطق الجوف ومجزر وبعض صرواح من تقدم، أَدَّى إلى تأمين غالبية الخطوط الخلفية للقوات المتواجدة في نهم.
ويُضاف إلى أَهَــمّ عوامل القوة من وجهة النظر المعادية، ما يتعلق بإشعال وفتح عدة جبهات حدودية وداخلية في وقت واحد، وَكانت في معظمها جبهات جديدة شملت مناطق الجوف وميدي وحرض وعتمة وذو باب والوازعية والمسراخ وصبر الموادم ومشرعة ومدينة تعز وغيرها، حَيْــثُ كان تحالفُ العدوان ونعاجه المحلية يعوّلون كَثيراً على حدوث انهيار كامل الخطوط الدفاعية للجيش واللجان؛ نتيجةَ الضغط المتصاعد على مجاهدي الجيش واللجان خلال العام 2016 م، وهو ما لم يحدث بفضل الله وحنكة القيادة وصبر وصمود المجاهدين، حتى مع اندلاع المعارك في عدد من الجبهات المستحدثة مطلع العام2017 شمال محافظة صعدة، بالتزامن مع بلوغ جبهة نهم وجبهات أُخرى في تعز والبيضاء وشبوة ذروة اشتعالها، وَأَيْـضاً مع التصعيد الكبير في ذات الجبهات عام 2018 بالتزامن مع التصعيد الضخم في الساحل الغربي، وتحديداً المديريات الجنوبية بمحافظة الحديدة.
وأخيراً ينبغي التذكيرُ بأحد أَهَــمِّ عوامل القوة المادية التي عوّل عليها تحالفُ العدوان كَثيراً، وظن أنها ستسهل عليه مسألة التقدّم العسكريّ في كافة الجبهات عموماً، وفي جبهة نهم بشكل خاص، وهو العامل الاقتصادي والحصار الإجرامي المطبق على البلاد، وازدياد الضغط المعيشي على الشعب الصابر المقاوم بصورة كبيرة عقب مهزلة نقل البنك المركزي إلى عدن 2016م، وما تلى ذلك من إيقافِ تسليم مرتبات موظفي الدولة وتدهور القيمة الشرائية للعملة المحلية، بالتزامنِ مع انهماك قوى العدوان في استغلال مستجدات التجويع والحصار ومعاناة اليمنيين في تسهيل أعمال استقطاب وتجنيد أكبر عدد ممكن من المخدوعين، وكان يتم إطلاقُ دعوات الانضمام واستخدام “جزرة” الرواتب المنتظمة بشكل صريح وعلني، وعلى ألسنة قادة الألوية والمناطق العسكريّة “المستنسخة”، واستغل هذا الجانبُ أَيْـضاً كمادة إعلامية دسمة يستند إليها العدوُّ في تخطيط وتنفيذ حملات التحريض الشامل ومساعي إثارة الفوضى الداخلية، وغير ذلك من السموم المرئية والمسموعة والمقروءة، إلّا أن معظمَ عوامل ونقاط القوة التي اتكأ عليها العدوُّ سرعان ما تحوّلت -بفضل الله- إلى نقاط ضعف قاتلة.
وللوقوف على شيء من حجم الخسارة الكارثية، وجانب من وطأة الهزيمة التي حلّت بجند الطاغوت من قوى العدوان الأمريكي السعودي، يمكن إيضاحُ بعض أوجه القوة الميدانية “الأولية” التي تم إعدادُها آنذاك، حَيْــثُ كانت خارطةُ الانتشار الميداني مثقلةً بالاستعدادات والتجهيزات البشرية والنارية واللوجستية التي تراكمت شيئاً فشيئاً لتشمل ثلاث مناطق عسكريّة كاملة، تركزت غالبية طاقاتها القتالية القديمة والمستحدثة مع كتائب الدعم الملحقة بها في نطاق جغرافي محدود، إذ كانت ما تسمى بالمنطقة العسكريّة الثالثة (ونطاقها الافتراضي مأرب وشبوة) والمنطقة العسكريّة السادسة (نطاقها الافتراضي يشمل الجوف وصعدة وعمران)، والمنطقة العسكريّة السابعة (بنطاق افتراضي يشمل محافظة صنعاء وذمار والبيضاء)، تتولّى بمجملها جل العمليات العسكريّة على الأرض، حَيْــثُ تمثلت مهمتها الأَسَاسية في تطويق العاصمة من الشرق والشمال والجنوب، في ظلِّ توفر ما يقارب 100 ألف مرتزِق آنذاك يتوزعون -مبدئياً- على 10 ألوية فاعلة في أكثر من 5 محاور عسكريّة ضمن 3 مناطق عسكريّة، مهمتها الحسم العسكريّ في صنعاء، وكان 70% من العناصر المأجورة التابعة لألوية تلك المناطق العسكريّة قد اجتازوا تدريباً نوعياً لأكثرَ من عام ونصف، مع امتلاك تلك المناطق العسكريّة والمحاور التابعة لها ألوية ذات عتاد عسكريّ وقتالي نوعي، أهمُّها قاذفات ومدفعيات حديثة ومتطورة دقيقة الإصابة، إلى جانب دبابات ومدرعات ونظام صاروخي دفاعي لحماية المعسكرات من أيِّ هجوم صاروخي، وافتراضياً كانت مهمةُ المنطقة العسكريّة الثالثة التي تشمل محوري شبوة ومأرب، تقديم الدعم اللوجستي والعملياتي للجبهة العسكريّة في نهم وبني حشيش، وصولاً إلى أرحب وتحرير صرواح جنوباً، وقطع خط الإمداد بالسلاح عبر الصحراء الواقعة بين شبوة ومأرب، وكانت أَهَــمُّ ألويتها (المستنسخة) كاملة الجهوزية، اللواء 55 (نسخة مزيفة عن اللواء الأصلي الواقع جنوب مدينة يريم)، واللواء 133 (نسخة مزيفة عن اللواء الأصلي الواقع بمديرية كتاف)، واللواء 141 (العبر، حضرموت).
بينما كانت المهام الافتراضية للنسخة المزيفة من المنطقة العسكريّة السادسة ومحاورها الثلاثة، تبدأ من الجوف وصولاً إلى عمران، مروراً بحرف سفيان وأُخرى تتجه من الجوف إلى صعدة، ومهمتها قطعُ الإمداد بين صعدة وصنعاء وتأمين تلك المحافظات، وَأهم ألويتها الفاعلة هي اللواء 310 (مدينة عمران)، واللواء 127 (الحزم)، واللواء 101 (صعدة)، واللواء 122 (تهامة)، وفي قلب ذلك الزخم “المترهل” كانت مهمة النسخة “الصحراوية” من المنطقة العسكريّة السابعة هي تطويق صنعاء من جهة الشرق عبر جبهات نهم وَأرحب ومن الجنوب أَيْـضاً، على أَسَاس أن يتم تحريرُ البيضاء ودخول ذمار وقطع طريق إب وتعز ثم السيطرة على نقيل يسلح ومداخل صنعاء الجنوبية في مناطق سنحان وخولان، وكانت أَهَــمُّ الألوية المستنسخة التابعة للمنطقة السابعة هي اللواء 125 واللواء 121 (عتق)، واللواء 72 (دفاع جوي، صنعاء)، وآنذاك كان اللواء 314 (حضرموت) والذي كان حينها قيد التأهيل، كما أن هناك أَيْـضاً لواء المهمات الخَاصَّة الذي أنشئ حينها بقيادة المنافق فقط، ليتولّى مسألة تأمين العاصمة صنعاء بعد إسقاطها المفترض، ثم ما يسمى لواء حفظ السلام ولواء الحسم وكتيبة سميت بـ”العفاريت” تتبع نسخةً مزورة عن اللواء 117 ومقره الأصلي مكيراس، وَأَيْـضاً النسخة المزيفة عن لواء العمالقة أَو اللواء 29 ميكا، وغير ذلك مما أنشأته وحشدته قوى العدوان عبر هذه المناطق العسكريّة بألويتها المذكورة أعلاه والألوية الأُخرى اللاحقة بها وعشرات من كتائب الدعم التي اضطر العدوُّ لإنشائها بعد تنامى فشله الذريع في العام الأول والثاني.
وبعد أن اكتظت جبهةُ نهم بهذا التجمع التخريبي الكبير، شاءت إرادةُ الله أن يحيلَ مكائد أسيادهم وَتدبيرهم وأعمالهم إلى هباء منثور، وأن تتبعثرَ كُـلُّ تلك الجهود التراكمية المحمومة عن بكرة أبيها ويهزم الجمع، ويولون الدبر، بفضل المكرمة الإلهية العظيمة والمنحة الإعجازية السخية “البنيان المرصوص”.
عن مسالك الاستنزاف
في 21 فبراير 2016م، أعلن بدء المرحلة الثانية من العمليات العسكريّة في نهم، ومرَّ فصلُ الربيع مخلفاً دماراً كاملاً أحدثه طيرانُ العدوّ ومدفعيته في كافة القرى القريبة والواقعة على جانبي الطريق الرئيس، وكان تقدّمُ المرتزِقة بطيئاً ومكلفاً، ومع مطلع العام 2017 اتسعت رقعةُ منطقة العمليات لتتناسل القطاعات العسكريّة مع تتمدد خط المواجهة عرضياً، وتزداد النقاط المحورية الساخنة على طول خط التماس، وخُصُوصاً مع استماتة قوى النفاق وتكاثر محاولاتهم التجريبية أَو المخطّط لها لإحداث اختراق هنا أَو هناك، أَو تنفيذ التفاف تلو آخر، حتى وصلت المسافةُ الميدانية إلى أقصى حدودها الجغرافية الممكنة مع استمرارِ العمل على تغطية الاحتياجات البشرية واللوجستية المتصاعدة، مع اتساع الفجوة بين الأهداف العملياتية المحقّقة قياساً بحجمِ الإمْكَانات المتوفرة.
وشيئاً فشيئاً غاص العدوُّ في أتون العديدِ من المعارك المتداخلة من أقصى ميمنة الميمنة في بادين وَالنخش، إلى أقصى ميسرة الميسرة في عيده الغربية، واستمرّت المعركةُ في شد وجذب وكر وفر متواصلين، فكلما حقّق العدوُّ تقدماً في قطاع ما، سرعان ما كان يخسر موقعاً متقدّماً في قطاع آخر، لكن هذا لا يعني بالضرورة أنه لم يكن في فترات معينة متقدّماً بشكل لافت ومؤثر، بل وصل أنه استطاع قبل عامين ونيف وفي ذروة عملياته المكثّـفة تحقيق سيطرة شبه كاملة على غالبية المرتفعات الاستراتيجية والقمم والسفوح الحاكمة في كامل مناطق التماس، مقابلَ اضطرار الجيش واللجان إلى الانتشار في المنخفضات والأودية المتاخمة، ولم تدم هذه الحالةُ طويلاً، إلّا أن مستوى السيطرة على المرتفعات الأكثر أهميّة كان يميل خلال الفترة اللاحقة لصالح العدوّ، لكنه كان يتكبّد الخسائرَ الباهظة باستمرار وأضعاف ما كان يلحق بمجاهدي الجيش واللجان، تبعاً لعدة اعتبارات:
منها أن العدوَّ هو الطرف المهاجم مع اعتماده هجومياً على الكثافة العددية وبشكل مبالغ فيه، وهذا في الواقع كان نتاج الأسلوب القتالي المعتمد والمطلوب من قبل الممول السعودي والقيادة المشتركة الحريصة على الزج بمجاميع إضافية، وحشد قوة بشرية كبيرة سعياً لضمان تكثيف مقدار القوة الدافعة ومستوى الزخم القتالي، بما يفوق فعلياً حجمَ المتطلبات الميدانية الحقيقية، وهذا بدوره أَدَّى -بتوفيقِ الله- إلى رفعِ فاعلية وكفاءة كمائن وأشراك الجيش واللجان إلى مستويات فائقة، وفي المحصلة كان يتمُّ ايقاعُ خسائر بشرية فادحة بالعدوّ دون أن يتمكن من تحقيق نتائج ميدانية تُذكر، فضلاً عن نتائج الضربات الاستباقية والاعتيادية المنفذة من قبل القوة الصاروخية وسلاحي الطيران المسيّر والمدفعية، وكذلك العمليات الهجومية الواسعة، إضافةً إلى استخدامِ تكتيكات قتالية متعددة استنفذت كَثيراً من دوافع العدوّ البائسة، وأحرقت آماله أولاً بأول، مما أسهم على المدى الطويل في استهلاك إرادته القتالية.
ومن تلك التكتيكات استدراج العدوّ باتّجاه بعض المناطق الميتة كسلسلة تباب الرباح وسد العقران ووادي الجرجور وغيرها من الانزلاقات التي أنهكت العدوَّ وجعلته يلهث بين آونة وأُخرى خلف غايات مرحلية مستجدة هي في الأَسَاس غير مجدية بذاتها على المستويين الاستراتيجي والعملياتي، وكان لهذه التكتيكات أثرُها الذي أسهم في تنميط الوضع القتالي في ذهنية نسبة لا بأس بها من مجتمع الارتزاق المتكدس ملء منطقة العمليات، بحيث أصبح التحام تشكيلات العدوّ المتواجد في الميمنة مع قواته المتمركزة في القلب، بمثابة انتصار كبير يستوجب تهنئة القادة بعضهم بعضاً، وصرف مخزون البهجة والأفراح المصطنعة، ولكن سرعان ما تتبدّد هذه الثرثرة الفرائحية الشاملة حين يستعيد المجاهدون تلك التبَّة أَو ذاك الجبل، وهو ما يؤدي إلى إعادةِ اختراق هذا الالتحام “المتقدم” قبل اندماله وهكذا.
وعلى العموم، كان للهجمات الاستنزافية والإغارات المستمرة وقعها ومفعولها الكبير في التنكيل بالعدوّ في جبهة نهم التي لم تهدأ فعلياً طوال 4 سنوات، إلّا أنه وبعد ثلاثة أعوام تقريباً، كان ثمة واقع مغاير يتشكّل على امتداد منطقة تواجد العدوِّ في نهم، في أعماق شريحة كبيرة من الأفراد المخدوعين والمغرّر بهم من القائمين على تنفيذِ المهام العسكريّة بأنواعها، مع ما كانَ يطغى على الأجواء التعبوية من الفتور والخمول، كما اتسمت اليومياتُ العسكريّة برتابة الروتين الاعتيادي المستقر، وغطت نوازع الاسترخاء على عزائم الأفراد المخدوعين، خُصُوصاً أولئك القابعين في الأنساق الخلفية، وهي الخطوط المطمئنة لمتانة التحصينات وبعد المسافة الفاصلة بينهم وبين المجاهدين، وعزّز هذه الأجواء النفسية فقدانُ الارتباط بالغايات المثالية المزعومة، مع تبخّر الأسس الافتراضية لمعنى القضية العادلة وانكشاف المقاصد الفعلية، خَاصَّةً بعد تراكمِ الشواهد المعاكسة لمضامين التعبئة العامة التحريضية المكرّرة، ما أَدَّى إلى تعاظم الإحساس بالغبن وعدم المساواة وانعدام الرغبة في التضحية لصالح منتفعين وفاسدين كثر، مع شدة وطأة أخطاء النيران الصديقة والحليفة، وما يصاحبها من ثقل الإذلال الكبير المتكرّر، ونهب المستحقات المستمر، وما يرونه وما يصلُ إلى مسامعهم من أخبار الاستثمارات والعقارات التابعة لكثيرٍ من القيادات والضباط والمسؤولين، فضلاً عن ما يعلمونه من عدم الاهتمام بالجرحى وأسر الشهداء، فضلاً عن وتيرة التمييز الحزبي والمناطقي المتعددة والماثلة في كُـلِّ اتّجاه.
وبهذا الصدد يشار إلى أن وزارةَ دفاع المرتزِقة أصدرت عدة تعميمات تحظر على الجنود والضباط التواجد خارج نطاق المهمات المناطة بهم، وإلا سيتعرضون للاعتقال والمساءلة وإجراءات عقابية أُخرى، وهذا بحدِّ ذاته يبين ارتفاعَ مستوى التسيب وعدم الانضباط، بحيث أن الكثيرَ صاروا يفضّلون الخروجَ وقضاءَ أوقاتهم في مأرب، حَيْــثُ الهدوء، وهو ما استدعى من قيادة العدوّ إصدار مثل هذه التعميمات لتدارك الأمر.
ويذكر أن بعضَ من تمَّ اعتقالُهم بتهمة “عدم الانضباط” في الجبهة، كانوا ممن يتزعمون تشكيلات قتالية ويفترض أنهم مرابطون في الجبهة، ومنهم زعيم ما تسمى بكتائب الدعام الذي تم إلقاءُ القبض عليه في مأرب، وغير ذلك من المؤشرات التي تبين في مجموعها ضعف العقيدة القتالية وهشاشتها؛ نتيجةً للكثير من أسباب وَعوامل التشظي الوجداني، ويمكن اعتبارُ الكم الهائل من الاستقالات والقرارات المتناقضة والتغييرات القيادية الدائمة مؤشراً إضافياً لحجم التخبط وعشوائية الأداء، مع ما صاحب ذلك من ضغط نفسي كبير في الفترات الأخيرة؛ نتيجةَ موجات الاتّهامات والنقد والسخط الإعلامي المتذمر من سنوات الفشل والركود في نهم، وهو ما اضطر منافقي حزب الإصلاح إلى تنظيمِ حملات إعلامية مضادة داعمة لمجاميع الارتزاق في نهم، بغيةَ الحدِّ من تأثيرات تلك الهجمات الساخطة من خلال تكثيف الدعاية البرامجية الموجهة وتنظيم زيارات ميدانية لكثير من ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي، مع إقامةِ المزيد من الضجيج في الأنساق الخلفية للجبهة بإقامة المسرحيات والاسكتشات وحتى الأعراس الجماعية للعشرات من أفراد ميليشيا الإصلاح، إلى آخرِ تفاصيلِ التهافت الدعائي الأرعن والذي كان بدوره يوفر للساخطين مادةً خبريةً للتهكم والسخرية.
التاريخُ من منظور ناصع
بمناسبةِ الذكرى الثانية لبدء العدوان، قال الخائن أحمد البعداني الذي كان يقود ما يسمى باللواء 314 الذي كان يتمركز في قلب جبهة نهم: “سندرس عاصفةَ الحزم لأجيالنا القادمة”.
أعجبني ما ورد على لسانه لكن من منظور مختلف، نعم، سندرس عاصفةَ الحزم لأجيالنا القادمة إن شاء الله، لكن في إطار العناوين الإيمانية والأخلاقية الكبرى، سندرس عاصفةَ الحزم؛ باعتبارها نقطةَ انطلاق المستضعفين ومستهل النهضة الكبرى، وسندرسها باعتبارها شرارةً مرحليةً أسهمت في تعزيز جهود الأمة نحو الارتقاء الشامل في دروب المآثر المجيدة التي انتجت “نصر من الله” و”البنيان المرصوص” و”فأمكن منهم”.
وستدرس أَيْـضاً كحماقة لم يدر أصحابُها ومن وراءهم، أن تاريخاً مجيَدًا، مستقلاً بذاته، سيبدأ عند كُـلِّ إشراقة جديدة من اكتمالات “الهُــوِيَّة الإيمانية” الفريدة.