المفاوضاتُ مع “خَـدَّام الجِرافي” أم مع “الجرافي” نفسه؟
حمود عبدالله الأهنومي
أقلُّ ما توصفُ به تصريحاتُ سفير العدوان السعوديّ لصحيفة (وول ستريت جورنال)، أمس الاثنين، بأنها تصريحات جوفاء، وتعبّر عن غباء متمكّن من النظام السعوديّ، الذي أوعز لسفيره بأن يطلقها، بعد أن وصل اليمنيون إلى مرحلة متقدمة في إدارة الصراع الجاري منذُ ست سنوات، وبعد أن ثبّت اليمنيون معادلات الردع الفاعلة والقوية، وإن يكن في تلك التصريحات شيء يمكن أن يوصفَ بالجِدّة فهو إعلان أولئك المعتدين باستعدادهم وقف إطلاق النار في جميع الأراضي اليمنية، ولو أن ذلك يأتي تفادياً واستباقاً لعودة محافظة التاريخ والحضارة مأرب إلى حضن الوطن، ومحاولة إيقاف سلسلة السجالات العسكرية بين صنعاء والرياض.
كرّر السفيرُ سيِّءُ الذكر عرْضَه الوقح والغبي لليمنيين بالتفاوض مع حكومة عملائهم المرتزِقة (الدنابيع)، وهو عرض لا يحمل أية صفة قانونية ولا أخلاقية، حيث لا موقع قانوني ولا أخلاقي لهذا السفير ولا لنظامه يخوِّلُ له توجيه مثل هذه العروض، أما تبريره تصعيد العدوان بقصف عدد من المحافظات اليمنية يوم الأحد الماضي، ومنها صنعاء والحديدة، فهو تبرير يحمل إشارةَ الضعف والخوف مما تحمله أيام العام السادس من الصمود اليماني الأسطوري القادمة، على الرغم من أن (إيلانا ديلوزيير) الخبيرة في شؤون اليمن في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، استنتجت بأن الدعوات السعوديّة الحالية للقاء الحوثيين وجهاً لوجه لإجراء محادثات بعد الهجمات الأخيرة نهاية الأسبوع، تشير إلى أن السعوديّين يريدون بشدة إنهاء الحرب في اليمن، وأضافت: “على الرغم من المكاسب الإقليمية الأخيرة التي حقّقها الحوثيون، فإن السعوديّين يؤيدون القنوات المباشرة مع جماعة أنصار الله”.
غير أن الحقيقة أن السعوديّين دأبوا منذ فترة على الخروج من حالة الغطرسة التي كانوا ينتشون بها في بداية العدوان إلى حالة المراوغة والتلاعب السياسي، ليس لأن لديهم رؤية يسعون لشراء الوقت من أجل تحقيقها؛ بل لأن اليمنَ بات يمتلك زمامَ المبادرة، وهم يعيشون حالةَ التخبط والضياع والتيه، حيث لا يجدون ضوءاً أمريكياً يسمح لهم بالخروج من هذا المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه منذ مارس 2015م، كما أن الأنظمة الاستبدادية الفردية لا تملك كثيراً من الخيارات؛ ولهذا فإنها كثيراً ما تغوص في وحل خياراتها الصفرية إلى النهاية، فإما الانتصار الكاسح والساحق، وإما الهزيمة المذلة والمدوية.
شخصياً لا أتوقع لهذا النظام المستبد -والذي يتحكم فيه قليل من الصِّبْيَةِ المراهقين والمستكبرين- الخروج من هذا المأزق، إلا بعد أن يصلوا إلى مرحلة الانهيار والهزيمة المذلة، حيثُ سيستمرون في حالة التلاعب وشراء الوقت ومحاولات التهدئة الزائفة التي ظلوا وسيظلون يطرحونها بين الفينة والأُخرى، تفادياً لضربات كبرى وساحقة، تستعد القوات اليمنية توجيهها إليهم.
ليس هناك أكثر ثقلاً ولا أبهظ حملاً عند تلك الأنظمة الفردية المستبدة من ظهور الحقيقة إلى الملأ؛ ولهذا حرص السعوديّون طوال السنوات الماضية أن تبقى بعضُ التواصلات بينهم وبين الوفد الوطني المفاوض تحت الستار، وأرغبُ ما يرغبون فيه إذَا قرّر المجاهدون أن يوجهوا إليهم ضربات هو أن تكون تحت جنح الظلام، وأن تبقى طيَّ الستر والكتمان، حيث النفاق والرياء هو السلوك المفضل لدى هذا النوع من الأنظمة البائسة، ولعل إعلان سفير المعتدين السابق عن وجود تواصلات مع اليمنيين جاء على خلاف ما عهدناهم عليه، ولكنه تعبيرٌ عن حالة الشعور بالإحباط والهزيمة الذي وصل إليه هؤلاء المعتدون.
نحن يجب أن لا نخجلَ من إعلان أي تواصل بيننا وبينهم من موقع القوة والشرف والكرامة والعزة، إذ شعبنا ينظر إلى وفده المفاوض كجنود وضباط في المعركة السياسية التي لا بُدَّ أن تستخدم أدوات حربها وقتالها كما ينبغي، مثلهم مثل المقاتلين الشجعان في ساحات الشرف وميادين الرجولة، وعليه فليس هناك من داع أبداً لكتمان ما يجري على هذه الجبهة، وقد ثبت أن إعلان أية مفاوضات أَو تواصلات هو أمرٌ سيِّءٌ بالنسبة لهذا العدوّ المتغطرس والمرائي والمنافق، وَإذَا كان الأمرُ كذلك فإنه جدير بنا استخدام هذه الأداة وكل أدوات وآلات إلحاق الهزيمة بهذا العدوّ.
قد لا يكترث هذا العدوُّ البائس من هزائم مذلة تلحق به وبمرتزِقته على أرض الميدان مثل اكتراثه وانزعاجه من إعلان تلك الهزائم على رؤوس الأشهاد، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلُّ على حالة النفاق والرياء التي تتدثر بها الأنظمة الرجعية والفردية والمستبدة، وبعد أن وصل اليمنيون إلى هذا الموقع المتقدم من القوة والفاعلية، وبعد أن وصلت الأمور المختلفة إلى هذه الدرجة من الوضوح في طبيعة المعركة وتشخيصها، فإنه يجدر باليمنيين في هذا العام، الذي أشار كلامُ السيد القائد -حفظه الله- إلى أنه عام النصر، أن لا يتركوا لهذا العدوّ المتغطرس أية فرصة لتحقيق أي نصر في تغطية عوراته وهزائمه.
إن تعرية المعتدين وإسقاط أوراق التوت عن وجوههم القبيحة وجرائمهم الموبقة، وسلبهم فضيلة الستر عليهم، ورفع الحجاب عن أية تواصلات ومفاوضات قادمة، ومكاشفة الشعب بكلِّ ما يدور خلف الكواليس، هو ما سيعجِّل بوضع النقاط في حروفها، وإقامة الاعتبار للحقيقة التي يحرصون على كتمها، ومنعهم من تلك الحالة الكبريائية التي يحاولون الاختباءَ خلفها، وليس في ذلك أي حرج بالنسبة لنا، بل نتيقن ونثق أن أبطالَنا في الوفد الوطني لا يقلون روحية وقوة وإيماناً عن زملائهم في ميادين الجبهة العسكرية والأمنية، وحين تكون المعلومة جزءاً من الأسلحة التي توجع العدوّ وترهقه وتعجِّل بهزيمته، فلا مناص من استخدامها وعدم التورع عنها.
إن الكتمان المطلوب شرعاً وحكمة هو في التدبير العسكري والأمني وما يتصل به من التفاعل الإعلامي، وفي ما يضمن الاحتفاظ بقوة وسلامة قواتنا وأسلحتنا والاحتفاظ بمزيد من النقاط التي يوفرها هذا الكتمان، وهنا أتى قول الله تعالى: (وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَو الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إلى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلاَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلاَّ قَلِيلاً) [النساء:83]، أي في ما يتعلق بالأمن والخوف وحالة الحرب وأحوال المعركة، أما في حالة إيجاع العدوّ الظالم وهزيمته بإظهار الحقيقة وكشف مجريات الأمور، فقد أذن اللهُ بأن نتحدّث حتى بما يسيء من القول، قال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً) [النساء: 148].
من المرجَّح أن المعتدين باتوا أكثرَ خشية من تطورات المعركة، ومن المفاجآت التي توعَّدهم بها السيد القائد، الذي عهدوه دائماً لا يتحدّث إلا قليلاً جِـدًّا، ولكن عن إنجازات كثيرة وكثيرة جِـدًّا، كما يحاولون تفادي إعادة مأرب إلى حضن الوطن؛ ولهذا خرج سفيرُ العدوان بمثل هذه التصريحات التي هي أشبه بذر الرماد على العيون، لكن كلامَ السيد القائد في آخر خطاب له واضح في هذا الصدد، وهو ضرورة إيقاف العدوان ورفع الحصار بشكل عملي وواضح، ويبدو أن من سابع المستحيلات اليمانية، ومن أكبر المحرمات السياسية عند وفدنا الوطني، الانسياق إلى تصوير المعركة بأنها حرب أهلية بين اليمنيين، وليست بين اليمن وتحالف العدوان المدعوم أمريكياً وصهيونياً، وعليه فلا قبول أبداً بأن تظهر السعوديّة وكأنها راع لأية مفاوضات قادمة.
إيقاف الحرب ورفع الحصار أولاً، ثم التفاوض مع العدوّ الحقيقي للشعب اليمن، والمالك قرار الحرب والسلم، وهو تحالف العدوان، من الموقِع المتقدم للشعب اليمني وجيشه ومجاهديه، ومن منطلق هُويته الإيمانية التي تأبى الذلة والتبعية والارتهان، هو الخيار الذي يجب أن يعملَ عليه جميع اليمنيين اليوم، أما تضييع الوقت في التفاوض مع سراب مرتزِقة الفنادق فلا يعدو أن يكون انسياقاً زائفاً، وإطالة تائهة للمعركة، وابتعاداً عن التشخيص الحقيقي لطبيعة المعركة القائمة على أرض الواقع، وكمن “يسَلِّم على غير الضيف”، ولا يوجد في الدنيا عاقل يفاوض (خَدّام الجرافي) أَو (خَدَّام خَدَّام الجرافي) مع وجود (الجرافي) نفسِه.