كورونا.. قبل أن يقعَ الفأسُ بالرأس (سيناريو تمثيلي)
عبدالقوي السباعي
هذه القصةُ الاستباقيةُ قد تكونُ من وحي الخيال، لكن قد تدور أحداثٌ مشابهة لها في اليمن وقد لا تكون الشخصياتُ الواردةُ فيها من الواقع، لكنها موجودةٌ في من يشاكلُها هنا أَو هناك.
المشهد الأول يظهر فيه الحاج (إبراهيم) تاجر الإلكترونيات المعروف الذي يتلقى اتصالاً هاتفياً دوليًّا من ابنه (أحمد) القادم من أمريكا إلى السعودية، (أحمد) الذي ظل قرابة الأربعة الأشهر الماضية يجول بين البلدان الصناعية لعقد صفقات الاستيراد للبضائع والمنتجات المطلوبة في الأسواق المحلية، بحسب طبيعة عمله التجاري، قد توقفت كُـلّ مشاريعه هناك مع تفشي وباء كورونا في تلك البلدان، حيث تعطلت معظم الأعمال وتأجلت كُـلّ الصفقات حتى إشعارٍ آخر، الأمر الذي جعلهُ يتصل بوالده لتأمين طريق عودته إلى العاصمة صنعاء لقضاء شهر رمضان المبارك بين الأهل والأصدقاء، ولكن دون المرور بالإجراءات الاحترازية التي تُعتبر بالنسبة له ولغيرهِ من رجال المال الأعمال بمثابة تقييد حرية وعرقلة ومضيعةً لوقته الثمين والتي تقوم بها أجهزة الدولة المختلفة لمحاصرة ومواجهة وباء كورونا ومنعه من النفاذ إلى البلاد بكل وسائلها وأساليبها المتاحة.
طبعاً لم يكن (أحمد) وحدَهُ في رحلة العودة، فصديقه (مصطفى) القادم من الصين و(محمود) الذي تعرف عليه في جدة سيكونان رفيقيه في العودة؛ كونهما سيشاركانه كُـلّ المصروفات والمبالغ الطائلة التي ستدفع لشبكات التهريب التي أصبحت في زمن كورونا من أقوى الشبكات وأغناها وأكثرها تنظيماً وتنسيقاً في إطار مافيا الإجرام الدولي، (إبراهيم) ما عساهُ غير الدعاء لولده ومباركة خطواته، وينادي (لأم أحمد)؛ لكي تشاطرهُ فرحة سماع صوت ابنها الوحيد وقرب عودته والدعاء له، ثم يغلق السماعة، ويوصيها بعدم إيقاظه من النوم حتى موعد الغداء.
المشهد الثاني (أحمد) يصل البيت ووالداه وزوجته الحامل وطفلاه كانوا أول المستقبلين له فرحين مستبشرين بقدومه، وتغمرُ المكان سعادةٌ لا حدود لها بعد غيابٍ دام لأكثرَ من أربعة أشهر، في صباح اليوم التالي استيقظ الجميعُ غير (أحمد) الذي يغط في نومٍ عميق والذي عبرت عن ذلك زوجتهُ بأنهُ مُتعب من السفر، وبحسب ظنها أن السُّعالَ والرشح ونزلة البرد التي تعتري زوجَها إنما هي مُجَـرّد اختلاطٍ طبيعي لتغير الجو، المهم استيقظ (أحمد) في الظهيرة مشتاقاً لسوق القات ليغادر المنزل متوجّـهاً إلى السوق بسيارته وبصُحبة ولديه اللذين ما توقَّفا لحظةٍ عن تقبيله وعناقه.
في السوق وكعادته لا يخرُجُ منهُ إلاّ وقد مرَّ على جميع الباعة (المقاوتة)، فيفحص ويقلب هذه (العلاقية) ويشم ويطعم تلك حتى يصلَ إلى أفضل نوعية من القات، وهكذا عند الخضروات والفواكه وعند لعب الأطفال.
وعند الوصول باب المنزل صادف قدوم الحاج (إبراهيم) من المسجد مع جمعٍ من الأهل والأصدقاء الذين عزمهم على شرف رجوع (أحمد) من السفر، بعد تبادل السلام والعناق وقبل دخولهم البيتَ، لمح الوالد جارهم الأُستاذ (علي) فصاح بهِ صديقه الحاج (إبراهيم) موبخاً إياهُ لسببين الأول لعدم رؤيته في المسجد وفي الحارة هذه الأيّام ومحاصرة أهله وأولاده في المنزل، والثاني لعدم الترحيب والسلام على ولده وَأَيْـضاً على الضيوف كما هي عادته، لكنهُ أجابهُ ضاحكاً: (السلام تحية يا رجال، والحمدُ لله على سلامتكم يا أحمد، والله يخارجكم ويخارجنا جميعاً من كُـلّ مكروه قد ينتج عن تهاونكم وتساهلكم واستخفافكم بالإجراءات الاحترازية التي أعلنتها كُـلُّ الدول وليس فقط دولتنا، خاطركم).
يدخل الجميعُ البيتَ لتناوُلِ الغداء ومن ثم المقيل، وفي خضم نشوة المقيل يتلقى (أحمد) اتصالاً من (مصطفى) الذي أفصح له بأنهُ آثر الجلوسَ في أحد الفنادق بالعاصمة قبل أن يعودَ إلى أهله وعن نيته الذهابَ إلى أقرب مركَز للحجر الصحي للاطمئنان على خلوِّه من وباء كورونا بعدَ ما عرف قصةَ صديقهم (محمود) الذي أخذ يسرد تفاصيل ما جرى له –فبعد عودته للمنزل وسط فرحة الأهل التي لم تدم طويلاً ففي منتصف الليل استيقظ الجميعُ على صراخ (محمود) المتشنج والذي بالكاد يستطيع التنفسَ، فهرع إخوته إلى جارهم لإحضار سيارته وإسعافه من القرية إلى مركز المديرية الذي عجز طاقمُهُ التمريضي المناوبُ عن تحديد سبب ذلك، وقاموا باقتراح نقله إلى صنعاء وبالفعل قاموا باستئجار حافلة ركاب متوسطة ليصلوا صنعاءَ تمام الثامنة من صباح اليوم، وهو في غيبوبة تامة فبعد دخولهم المستشفى بنصف ساعة فارق الحياة– تلقى (أحمد) هذا الخبرَ كالصاعقة، وأخذ يحكي للمجموعين ما جرى، فمنهم من ظل قلقاً ومنهم من أرجع الأمر إلى مشيئة الله وأن الأعمار والآجال بيد الله سبحانهُ وتعالى.
المشهد الثالث وبعد سبعة أَيَّـام، يستيقظ الجميع على صراخ زوجة (أحمد) فيهرع الوالدان نحو الغرفة، ظناً منهما أنها تعاني آلام الولادة، لكنها من فتحت الغرفة ليشاهدا ولدَهم الوحيدَ ممدداً على الأرض جثةً هامدةً، هرع الوالدُ لنقله إلى المستشفى لكن دون جدوى، ويمر أسبوعٌ كاملٌ مليءٌ بالحزن والكآبة على (إبراهيم)، ليتفاجأَ اليومَ بصراخ وتشنجات زوجة ابنه وحفيديه وزوجته وما عاد هناك من يقوم بمساعدته فيتمالك نفسه ويستجمع قواه ويأخذهم إلى السيارة –وجارهم (علي) ينظر من خلف النافذة باكياً لا يستطيعُ تقديمَ أي شيء لجاره الحميم–، فانطلق مسرعاً نحو المستشفى وفي الطريق وجد جثثاً آدميةً ملقاةً على الأرض وعلى قارعات الطريق والروائح النتنة تفوحُ في كُـلّ اتّجاه وفرق الانتشال تجمعها وتعبئها في أكياس وكأنها قمامة، ودخل المستشفى ليشاهدَ فيها أعداداً مهولةً من ضحايا كورونا لم تسعهم الأسرةُ ولا غرف الإنعاش، وما عاد بوسع الكوادر الطبية والتمريضية عملُ شيء غير مبادرة فرق التعقيم لسحب جثث زوجته وزوجة ابنه وحفيديه لتغليفها وإحراقها، فيخاطبهم متوسلاً ليلقي النظرةَ الأخيرة عليهم.
وحين وصل إلى جثة زوجته تفاجأ بيديها تمسك تلابيبَ صدره وتهزهُ بقوة ليستيقظَ فزعاً من نومه وهي جواره تحاولُ تهدئته وتلقينه الشهادةَ والصلاةَ على النبي وآله، فيدرك أنهُ كان في خضم كابوسٍ رهيب، ليقومَ مسرعاً ليتصلَ لولده (أحمد) مخاطباً ومستحلفاً إياهُ أن يرجعَ عن فكرتهِ في التهرب من الحجر الصحي، بل وحتى عن نية العودةِ إلى البلاد حتى تذهبَ هذه الغُمة، وأوصاهُ بتحذير وتوعية كُـلّ معارفه عن الخطر الذي يترصد الوطن ويتربص بالشعب إن هم فرطوا أَو تساهلوا مع هكذا أمر –فكُلُّ فردٍ منّهم اليوم وغداً يُمثل ثغرةً من ثغور هذا الوطن الغالي، فحذارِ أن يؤتَى الوطنُ والشعبُ من قِبلك– ودمتم سالمين.