الشهيدُ الصمَّـاد ومشروعُ “بناء الدولة”

 

المسيرة | خاص

منذ اللحظة الأولى لتوليه رئاسةَ المجلس السياسي الأعلى، صَبَّ الرئيسُ الشهيدُ صالح الصمَّـاد اهتمامَه على تأمين واحدة أهم الجبهات الرئيسية في مواجهة العدوان، جبهةٌ يمكنُ الاستدلالُ على حساسيتها وأهميتها اليوم، أكثر من أي وقت مضى، من خلال ملاحظة الجهد الذي يبذله العدوّ لاستهدافها بعد أن فشل في كُـلّ الجبهات الأُخرى، وهي جبهة “بناء الدولة” بالمفهوم المؤسّسي الذي نجد أن الكثير من تفاصيله تتقاطع مع أَسَاسيات العمل في بقية الجبهات، الأمر الذي يوضح مدى أهميّة مسار عمل الرئيس الشهيد في هذا المجال؛ لأَنَّ بناء وتطوير وتنظيم العمل المؤسّسي قد ساعد بشكل مباشر على النهوض بآلية مواجهة العدوان على كافة المستويات.

وقد تميز الشهيدُ الصمَّـاد في قيادة جبهة “بناء الدولة” بالقُدرة على التغلب على الظروف المفروضة من قبل العدوان والتراكمات السلبية الكثيرة لسياسات الأنظمة السابقة، الأمر الذي جعل المهمةَ بالغةً الصعوبة، كما يبرز ذلك التميز من خلال الأَسَاس الذي ارتكزت عليه عملية البناء، حيث لم ينطلق الشهيدُ وِفْــقًا لمشاريعَ ورؤىً خارجيةٍ أَو مستوردة، بل على أَسَاس وطني جسّد الانتماءَ الحقيقي إلى هذا البلد بهُـويته الإيمانية وقيمه الأصيلة.

إن الوضعَ الذي وجد فيه الشهيدُ الرئيس صالح الصمَّـاد نفسَه رئيساً للمجلس السياسي الأعلى، كان وضعاً استثنائياً للغاية، إذ كان الضرر الذي ألحقه العدوانُ بالدولة اليمنية قد بلغ مستويات عالية وصلت إلى حَــدِّ إصابة بعض المؤسّسات بالشلل التام، فيما كان البعضُ الآخر قد تحول إلى بؤر لاستهداف الجبهة الداخلية، ولا يمكننا تجاهُلُ حقيقة أن تلك المؤسّسات لم تكن متماسكة حتى قبل العدوان؛ وذلك بسَببِ الفساد المتراكم على مدى عشرات السنوات، والذي كانت الأنظمة السابقة تغذيه باستمرار حتى بات هو السمةَ الأبرزَ لهيكل الدولة، وقد أشار الشهيد الصمَّـاد في أحد خطاباته إلى أن الكثير الكثير مما يعانيه اليمن “سببُه سياساتُ الماضي”.

أمامَ هذا التحدي، انطلق الشهيدُ الصمَّـاد في مسار البناء من قاعدة متميزة لخّصها في أحد خطاباته بأن “المعركةَ مع العدوان لها ركيزتان أَسَاسيتان: الأولى الدفاع عن العرض والأرض، والأُخرى بناء الدولة”، وهو ما ترجمه مشروع “يدٌ تحمي ويدٌ تبني” الذي أطلقه الشهيدُ؛ بهَدفِ “إرساء مبدأ العمل المؤسّسي الذي يضمن إدارة الدولة إدارة وطنيةً تحافظُ على مصالح الشعب، وتحافظ على مبدأ السيادة والاستقلال”.

مثّل هذا المشروعُ نقطةَ تحول استراتيجية في مسار معركة المواجهة؛ لأَنَّ العدوَّ كان قد عوّل منذ البداية على انهيار مؤسّسات الدولة وارتكز على ذلك في محاولاته لتبرير العدوان بعناوين “مواجهة المليشيات”، وقد جاء مشروع الشهيد الصمَّـاد لينسفَ هذه العناوين ويثبتَ بشكل عملي أن هناك دولةً حقيقيةً ومتماسكةً في صنعاءَ، وهو الأمر الذي ثبت أَيْـضاً من خلال المقارنات المستمرة بين مناطق سيطرة المجلس السياسي الأعلى، ومناطق سيطرة حكومة المرتزِقة.

ومن أبرز ما أثبت تميز مشروع الشهيد الصمَّـاد لبناء الدولة وفاعليته الاستثنائية، النهضة التي أحدثها في المؤسّسة العسكرية اليمنية، التي كانت أبرز المؤسّسات المستهدفة أثناء العدوان وقبله، والتي أولاها الشهيد اهتماماً خاصًّا جمع فيه بينَ طرفَي مشروع “الحماية والبناء” في وقت واحد، من خلال فتح أبواب التجنيد والتدريب العسكري وإعادة تفعيل مختلف الوحدات العسكرية لرفد الجبهات، الأمر الذي صنع تحولاتٍ استراتيجيةً، يمكن القول إنها مثلت حجرَ الأَسَاس للتماسك والتطور الذي باتت عليه اليوم “القواتُ المسلحة”.

وقد جسَّدَ الشهيدُ الصمَّـادُ عنوانَ مشروعه في الآلية التي اتبعها لتطبيقه، ففي الوقت الذي كان يرعى فيه عمليةَ تطوير وتفعيل المؤسّسة العسكرية، كان يضع، وباهتمام كبير، أُسُسَ عملية بناء بقية المؤسّسات، وكان من أبرز قواعد هذا البناء التي حرص على تثبيتها قاعدةُ “الاكتفاء الذاتي”، وقد قدّم الشهيدُ الصمَّـاد هذه القاعدة بشكلٍ نَقَلَها من مكانها التقليدي في قائمة “المواعظ” إلى قائمة “المسؤوليات” والواجبات، مجسداً بذلك توجيهاتِ قائد الثورة في أوضح صورة.

ويذهبُ الشهيدُ الصمَّـاد في الحديث عن ضرورة تحقيق الاكتفاء الذاتي إلى حَــدِّ وضعه في صدارة الأولويات، إذ يقول في أحد خطاباته: إن “حاجتنا إلى تأمين قوتنا الضروري أهمُّ من حاجتنا إلى السلاح”، وهو ما يعكسُ عُمقَ مشروع البناء، ومدى واقعيته؛ لأَنَّ الإنسانَ سيعجز عن صناعة السلاح واستخدامه إذَا كان قوتُه الضروري بيد الأعداء، وقد مثّل لجوءُ العدوان إلى استخدام سلاح التجويع ضد الشعب اليمني دليلاً واضحاً على مدى أهميّة تحقيق الاكتفاء الذاتي.

والواقعُ أن الاكتفاءَ الذاتي في فلسفة مشروع الشهيد الصمَّـاد يمتدُّ من تأمين الغذاء إلى تأمين كُـلّ ما يحتاجه البلاد؛ ليكون بلداً قويًّا ومستقلًّا على كُـلّ المستويات، وعلى رأسها المستوى الصناعي الذي يشملُ الصناعاتِ العسكرية وغيرَ العسكرية، وقد كان الشهيدُ منفتحاً بشكل كبير على دعم كُـلّ مجالات التطوير في هذا المستوى.

ولتحقيق فعالية هذا المشروع بجانبَيه (الحماية والبناء)، وضع الشهيد الصمَّـاد أرضيةً صلبةً للعمل، وهي الشفافيةُ والرقابة والمحاسبة، وقد كان هو بنفسه أولَ مَن أخضع نفسَه لهذه المعايير، مؤكّـداً في أحد خطاباته على ضرورة أن “يكونَ هناك حسابٌ وعقابٌ للجميع من عند صالح الصمَّـاد إلى عند أصغر موظف في الدولة”، ولعل عبارتَه الشهيرة حول عدم امتلاك أولاده بيتاً يأوون إليه في حال استشهاده، أبرزُ دليل على أن الرجل قد طبّق جميعَ معايير مشروعه على نفسه أولاً؛ ليجسد بذلك شخصية القائد الحقيقي لعملية البناء.

ومن المهمِّ الإشارةُ إلى أن الشهيدَ الصمَّـادَ لم ينطلقْ في الأَسَاس بمشروعه من منطلقاتٍ سياسيةٍ أَو دعائيةٍ، بل من واقع “مسؤولية دينية” أكّـد عليها في أحد خطاباته، إذ أوضح أن “ثقافتنا الإيمانية تتضمّنُ ما يدفعُنا لبناء واقعنا”، وهو الأمرُ الذي يجعلُ المشروعَ أكثرَ أصالةً وموثوقيةً من غيره.

إنَّ الخوضَ في تفاصيل عمل الشهيد الصمَّـاد على بناء الدولة اليمنية يحتاجُ الكثيرَ من التحليل والعَرْض والبحث، ولكن إجمالاً: لا نبالغُ إن قلنا إن الشهيدَ قد وضع حجرَ الأَسَاس لنهضة كبرى يمكنُ أن تغيِّرَ واقعَ اليمن بشكل جذري، وقد أثبت -رحمة الله عليه- إمْكَانيةَ حدوث ذلك في ظل أصعبِ الظروف على الإطلاق.

WP Twitter Auto Publish Powered By : XYZScripts.com