عُشاق الوطن خالدون وإن رحلوا
منير الشامي
لا يمكن أن ينفي أي شخص حبَّه لوطنه في أي مجتمع، ولا يمكن أن يعلن عن ذلك وهو سليم الفطرة صحيح العقل، تلك هي الحقيقة، إلا أن حب الوطن يختلف من شخص إلى آخر تبعاً للزاوية التي ينظر منها إلى وطنه؛ ولذلك فإن نظرة المجتمعات البشرية إلى أوطانهم تختلف وتتباين مكانته في قلب كل فرد بكل مجتمع تبعاً لنظرته إلى وطنه، وتختلف باختلاف ظروف الوطن، فقد تتغير نظرة البعض بتغير الظروف سلباً أو إيجاباً، فيزيد مع ذلك تمسكاً به أو تفريطاً فيه، ومحن الوطن هي المختبر النفسي الوحيد الذي لا يخطئ في تحديد المحب للوطن والعاشق له، والمبغض للوطن والخائن له، والمحن التي فُرضت على وطننا الغالي خير مثال وأصدق دليل على ذلك، فهذه المحن فرزت الشعبَ وفرّقت بين المحب له والخائن، وبين الشاري له والبائع، بل وكانت دقيقة جداً في نتائجها لدرجة أنها حددت أكابر مجرميه بدقة وحددت أيضاً فئة قليلة من عشاق الوطن الصادقين.
الأستاذ أحمد الحبيشي -تغشاه الله بواسع رحمته- كان واحداً من عشاق الوطن الصادقين بعشقهم له والمشغوفين بحبه، لقد كان موسوعة تاريخية وهامة إعلامية، وشخصية سياسية مخضرمة، عايش الكثير من الأنظمة قبل قيام الوحدة بجنوب الوطن وبعد قيامها، رجل كان له علاقات واسعة مع الحكومات المتتابعة، وعلاقات واسعة أيضاً مع شخصيات دولية من مختلف البلدان العربية والدولية.
كان انحيازُه دوماً إلى صف الوطن في كلِّ محنة، وكان أعظم موقف خلده طوال حياته هو انحيازه المطلق والعلني إلى صَـفِّ الوطن مع بداية ثورة الـ 11 من شهر فبراير، وهو واحد من عمالقة الدائرة الإعلامية في حزب المؤتمر الحاكم آنذاك، فكان أول قيادة من قيادة المؤتمر التي أغضبت المجرم “عفاش”؛ بسبب صراحته ونصحه الصادق له، والذي جعله يدخل في دائرة العقاب العفّاشي بعد أن أدرك أن مثل هذه الهامة لا ينفع معها ترهيب ولا ترغيب، فأُقصي من عمله وهُدد في حياته من مجرم لا يرحم وسفاح لا يندم، ولا يستبعد أنه حاول اغتياله وفشل!!
ومضت الأيام وتتابعت الأحداث حتى تنحى عفاش وسلّم الكرسي للدنبوع وفق المبادرة الخليجية، فكان الأُستاذ الحبيشي من أوائل من أدركوا بأن الوطن تعرض لمؤامرة خليجية تستهدفه في أرضه وشعبه وحذّر من ذلك، فكان مخلصاً لشعبه وأرضه.
ومع قيام ثورة الـ21 من سبتمبر 2014م، كان من المبادرين بمباركتها وتأييدها؛ لأنه استشعر فيها أنها ثورة شعب حقيقية بيضاء سلمية تعبّر عن إرادة الشعب وتسعى إلى تحقيق أحلامه وتلبية تطلعاته، وكيف لا يكون ذلك موقفه وقد رأى هذه الثورة تجمع لا تفرق وتعفو لا تنتقم، وكان أول هدف حققته هو تخليص الشعب من الأيدي التي تسلطت عليه وخانته لعقود وأباحته لوصاية أعدائه، وكانت تمثل أيادي العمالة والخيانة لأعداء الوطن وسياطه في ظهور الشعب، فصار واحداً من ثوارها والمدافعين عنها ضد المؤامرات التي حيكت لإفشالها وكان آخرها العدوان الإجرامي.
ولأن الأستاذ الحبيشي -رحمه الله تعالى- كان هامةً وطنيةً شامخةً وشخصيةً إعلامية مرموقة، فقد حاولت دول العدوان وكبار المرتزقة استقطابه إلى صف العدوان بكل وسائل الإغراء وبعروض ربما لم تُعرض على غيره، إلا أنه بعشقه لوطنه وتمسكه بمبادئه وقيمه الدينية والوطنية رفض كل إغراءاتهم وأعرض عن كل عروضهم وآثر البقاء في صف الشرفاء وموقع العزة والكرامة مع المستضعفين من أبناء وطنه، وانطلق مدافعاً عنه ومناهضاً للعدوان وكاشفاً لزيفه وألاعيبه وفاضحاً لمخططاته ومؤامراته بكل الوسائل المتاحة أمامه وعلى كل المنابر التي استطاع الوصول إليها.
لقد كان -رحمةُ الله تعالى عليه- عاشقاً لوطنه حد الشغف، صادقاً بولائه حد اليقين، مخلصاً لشعبه حد التضحية، شريفاً في موقفه حد العفاف، راضياً بواقعه حد الكفاف، فتخلد في مواقفه في أنصع صفحات التاريخ اليمني رغم أنف الكارهين.
رحم الله فقيد الوطن الأستاذ أحمد الحبيشي، فرحيله مثّل خسارة للوطن من أقصاه إلى أقصاه، ونسأل الله أن يتغمده بواسع المغفرة والرضوان، وأن يسكنه فسيح الجنان وأن يلهم أهله وأبناء وطنه الشرفاء الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.