أموال الوقف وفساد النظام السابق
منير الشامي
إن من أهمِّ ما يميّز اليمن دون سائر الأقطار العربية والإسلامية، هو كثرة أموال الوقف فيه، ولا مبالغة إن قلنا بأنه لو قورنت أوقاف اليمن مع أوقاف البلدان العربية وَالإسلامية لفاقت الأوقاف اليمنية على أوقاف الكثير من الدول الأكبر منها مساحة والأوفر ثروة والأكثر سكاناً، ويرجع ذلك إلى الإيمان الصادق الذي تميز به اليمنيون عبر أجيالهم المتعاقبة، وحرصهم على التقرب إلى الله تعالى بوقف جزء من أموالهم في مختلف أبواب البر جيلاً بعد جيل، سواء أكانت للمساجد وتوفير احتياجاتها أَو لمدارس التعليم أَو للحث على العلم أَو قراءة القرآن أَو للفقراء والمساكين أَو لغير ذلك.
ولذلك تكاثرت أموال الأوقاف مع مرور الزمن في مختلف المناطق اليمنية، وعلى حَــدّ سواء في المدن أَو الأرياف، لدرجة أن بعض المناطق أصبحت أغلب أراضيها أراضي وقف، وخلال تعاقب الدول والأنظمة على اليمن ظلّت أموال الوقف في تزايد مستمر، ولم يقدم أيُّ نظام على التسلط على أراضي الوقف والتصرف فيها لمصلحته إطلاقاً، بل على العكس ساهمت بعض الأنظمة في زيادتها لأراضي الوقف عن طريق إيقاف بعض أفرادها لأراضٍ واسعة تقرباً إلى الله، وانتشرت ثقافة قداسة أراضي وأموال الوقف وحرمتها في المجتمع وترسخت في نفوس اليمنيين جيلاً بعد جيل، وظلت على هذا الحال حتى نظام المجرم عفاش والذي تسلّط عليها وجوّز لنفسه استخدامَها لمصلحته، وتصرف فيها وفق إجراءات قانونية قديمة لا تتناسب مع تغير أسعار الزمان والمكان، إذ أنه كان من المفروض عليه أن يوجه بإدارتها وفقاً لأسعار الزمان والمكان وسن قوانين لحمايتها واستمراريتها ودوام ريعها وموارد ما تم تأجيره منها من قبل وزارة الأوقاف ومكاتبها.
ليس ذلك فحسب، بل أصبحت الوظيفة في الأوقاف بعهده حلماً يتوق الوصول إليه الآلافُ ولا يبلغه إلا من كان عفاش وحاشيته راضين عنه، ومن وصل إليها فقد بلغ طريق الغنى والسعة في الرزق؛ نتيجة لضعف الإيمان والجهل بحرمتها وفداحة وزر من يعبث بها لمصلحته الشخصية.
ولذلك فقد تعرّضت أموال الوقف وأراضيه خلال فترة حكمه لأكبر عمليات فساد شهده اليمن في تاريخ أوقاف بالنهب والسطو عليها ببسط اليد والاغتصاب لها أَو الصرف والتصرف بها بالرشاوى والمجاملات والمحسوبية وغير ذلك، ودون تدوين وتوثيق لها وما كان يؤجر منها كان بأسعار زهيدة وإتاوات كبيرة ذهبت إلى جيوب المتنفذين والفاسدين من موظفي الأوقاف كما حدث، إضافةً إلى ذلك إهمال متعمد من قبل مكاتب الأوقاف لتحصيل إيجاراتها مما دفع بكثير من المستأجرين من قصارى الوعي وضعيفي الإيمان إلى اعتبارها أموالاً حرة مملوكة لهم ودون خوف من الله أَو خشية له.
فبددت معظم أراضي الوقف خَاصَّة في المدن التي استمرت أسعار الأراضي فيها في ارتفاع مستمر ومتضاعف دون توقف وصارت مرتعاً للفاسدين، خُصُوصاً في ظل فوضى الفساد التي تبناها عفاش خلال فترة حكمة وغياب المسألة والعقاب على أي اعتداء أَو تفريط أَو نهب للمال العام بوجه عام وللأوقاف بوجه خاص، ونتج عن ذلك اتّساع عبث العابثين بأراضي وأموال الوقف في كُـلِّ منطقة، وترافق مع إخفاء مستندات تلك الأوقاف وسجلاتها فضاعت معظم أراضي وأموال الوقف.
وفي ظل الفوضى التي كانت في أموال الوقف، أصبح من الصعب جِـدًّا اليومَ استعادة هذه الأموال والأراضي بصورة مباشرة، ولم يعد متوفراً أمام وزارة الأوقاف سوى ذمة المستأجر أَو ورثته إن كانت لهم مروءة وفي قلوبهم خشية من الله.
وفي ظل هذا الوضع أَيْـضاً فإن على الوزارة اليوم أن تتحمّل مسؤوليتها أمام الله تجاه ممتلكات الأوقاف، وستظل معنية بالبحث والتحري عن كُـلّ وثائق الأوقاف وعن سجلاتها ومتابعة واسترداد ما ظهرت وثائقها بقوة وحزم، وتجديد العقود لما هو مؤجر منها وثابت بسعر الزمان والمكان، وحسن إدارة واستثمار ما تبقّى منها بشفافية ووضوح ووفق ما يرضي اللهَ سبحانه وتعالى.