أحفاد بلال.. ثورة الوعي (الحلقة الأولى)
إبراهيم الهمداني
كثيرة هي المؤسّسات والجمعيات والمنظمات التي ادّعت حماية حقوق الإنسان، ورفض التمييز والعنصرية، وزعمت تبنيها للحرية والعدالة والمساواة، مبادئ رئيسية في توجّـهها ومسيرتها، لكن الواقع أثبت فشل تلك المؤسّسات على اختلاف مسمياتها، وسقوط تلك المزاعم إلّا من الشعارات والخطابات الحماسية.
ولعل قضية التمييز العنصري التي مُورست ضد ذوي البشرة السوداء، في مختلف بلدان العالم، هي القضية الكبرى التي سقطت أمامها كُـلّ تلك المزاعم والادِّعاءات، حيث كان وما يزال واقع تلك الطبقة المهمشة، شاهداً بقبح الإنسان حين يدعي العدل وهو يمارس الظلم بكل أشكاله.
تعرض المهمشون في اليمن -كغيرهم في بلدان العالم الأُخرى- لعمليات تشويه ممنهجة، هدفها النيل منهم وتهميشهم وتبرير التعالي عليهم والاستدلال بالأفضلية عليهم، وإسقاطهم إلى مرتبة الحيوان، وليس أدل على ذلك من التسميات التي أُطلقت عليهم، نظراً لما للمفاهيم والمصطلحات من أطر فكرية وثقافية وتصورية تعكس طابعها وتبين حقيقتها، ومن تلك التسميات، (الأخدام، المولدون، المهمشون، أصحاب بيوت الصفيح، أصحاب المحوى، وفي أحسن الأحوال عمال النظافة)، وكل تلك الأسماء تعكس أبعاداً فكرية ومعرفية وثقافية تُعلي من شأن الأنا، وَتسعى لتكريس دونية الآخر واحتقاره، أما لمهنته أَو لمستوى معيشته وفقره، أَو لطبيعة تكوينه ولونه، أَو لزعم عدم معرفة أصله وكونه دخيلاً، أَو غير ذلك.
لم تقف جهود مؤسّسة بنيان عند المشاريع التنموية والإغاثية، وتعزيز الصمود والاستبسال في وجه العدوان، بل يمكن القول إنها تجاوزت الإطار التنموي في تموضعه التقليدي، لتصل إلى بناء الإنسان معرفياً وثقافياً ومهاراتياً، حيث تبنت مشروع (أحفاد بلال)، مستهدفةً تلك الطبقة المهمشة من المجتمع، متجاوزة الكم الهائل من الموروث العنصري، لتعيد تموضع هذه الطبقة المستضعفة ضمن سياقات معرفية وثقافية وفكرية جديدة، تؤسس لآليات جديدة -أَيْـضاً- من السلوك والتعاطي والتعامل مع هذه الفئة، وترسي المؤسّسة أسس تلك المساواة بكل شجاعة وثقة وثبات، غير مكترثة بمن سيعارض وماذا سيقال.
دلالات التسمية:-
تتخذ التسمية مسارات دلالية ثلاثة، هي على النحو الآتي:-
١ -الدلالة المصدرية: التي تمثل الوجود الفعلي لذات العبد الحبشي (بلال بن رباح) في مجتمع التمييز القرشي، الذي فرض عليه القبول بدونية الذات، انطلاقاً من ثقافة مجتمعية سائدة، قامت بتصنيفه في دائرة العبودية والتبعية والاستلاب، بناءً على لون بشرته الأسود، وعبوديته بالولادة.
٢ – مرجعية الدلالة:
تعبر عن (بلال) في التواضع المجتمعي الإسلامي الجديد، ومركزه الاجتماعي بصبغته الدينية، ومكانته ودوره وأثره في حياة المجتمع الإسلامي، وارتباطه اللصيق بعنوان الإسلام وشعاره الخالد وهو الأذان، واختصاصه بذلك الشرف دون سواه من الصحابة، وارتباط الأذان بالصلاة في علاقة تلازم تام -إذ لا أذان بدون صلاة ولا صلاة بدون أذان- يحيل إلى طبيعة قداسة تلك الشعيرة الدينية أَو مكانتها بين شعائر الدين، وأهميتها روحياً وتربوياً وأخلاقياً، وهذا بدوره يحيلنا إلى طبيعة العقل الجمعي في تصوره لعلاقة المدلولات بدالاتها كعلاقة تلازمية تصل حَــدّ التطابق، لينشأ بعد ذلك ما يعرف بالانسحاب الدلالي، حيث تنسحب قداسة المكان على القائمين فيه، وتنتقل قداسة المهنة إلى من يقوم بها، ليصبح بذلك بلال بن رباح رمزاً دينياً بما شغله في هذا المجال، ورمزاً إنسانياً بما كانه في تاريخ المجتمع الإسلامي، وطبيعة دوره الفعال الإيجابي، وصموده وانتصاره لذاته ضد مشاريع الهيمنة والاستعباد (التمييز العنصري القُرشي)؛ مِن أجلِ الحرية والعدالة والمساواة في إطارها الإنساني العام.
غير أن ما حدث من انقلاب على الدين فيما بعد، وما كرّسه بنو أمية من مفاهيم وسلوكيات خاطئة منحرفة، كسر قداسة الصورة المثالية، وأحدث اختلالاً مفاهيمياً، وعبر عن انقلاب المجتمع على تعاليم دينه وجوهر تدينه، وحقيقة إنسانيته، وكرَّس صورة جديدة ألغت تموضع الماضي ودلالاته المرجعية، وقطعت التواصل المتناغم -المفترض تحقّقه- بين الماضي والحاضر، والموروث والمنجز، والأسلاف والأحفاد، جاعلة من بلال بن رباح -بكل ما يمثله- طفرة إنسانية منقطعة الصلات، مبتورة الاستمرارية الزمنية، لا يمكن قراءتها إلا في إطار نسقها التاريخي الماضوي، ونقطتها الزمنية المغلقة.
ربما كانت هناك أسباب غير معلنة لذلك التمييز العنصري، ويحتمل أن تكون أسباباً سياسية، انطلاقاً من التصور الذي يرى أنهم بقايا الاحتلال الحبشي لليمن، وهذا قد يقدم تفسيراً مقبولاً إلى حَــدّ ما، لتلك العنصرية والتعصب المتزمت، كردة فعل تقوم بها الذات اليمنية، انتقاماً لكرامتها وشرفها، واستعادة لحقها المسلوب وحريتها، من ذلك المستعمر الغازي الدخيل، بما يعكس العرف السياسي المتوارث، والمنتظم في قوانين الحروب، وطبيعة نهضة واضمحلال الدول المتعاقبة، وسنة الله في الحياة عُمُـومًا.
ولكن ليس هذا السبب السياسي على افتراض صحته مقنعاً بما فيه الكفاية، فهناك بقايا الاحتلال الفارسي، الذين يُعرفون باسم (الأبناء) ولهم وجودهم وحضورهم في الحياة اليمنية، وتموضعهم الجغرافي المتحضر، ولم يعترض أحد على وجودهم، ولم يتعرضوا لشيءٍ من التهميش أَو التمييز العنصري، إذن، ما الذي جعل ذوي البشرة السوداء عرضةً للتمييز العنصري أكثرَ من غيرهم؟!