الأسر المنتجة.. طريقُ الريادة وانتصار الإرادَة (1)
إبراهيم الهمداني
تأصيل مفاهيمي:-
يتكوَّنُ هذا المفهومُ من شِقَّين، الأول:- “الأسر” جمع أسرة، ويقصد بهم عدد من الأفراد، تربطهم علاقات قرابة، وينضوون تحت مسمى أسرة، والأسرة هي قوام تكوين بنية المجتمع الإنساني.
والثاني:- إنتاج، ويشير إلى عملية صناعة شيء من شيء آخر، باستخدام مجموعة من الأدوات والوسائل، ويعد من أهم العمليات التي تساهم في إيجاد سلعة أَو خدمة معينة، يتم تقديمها تلبية لحاجة الاستهلاك، وينتمي مصطلح الإنتاج إلى علم الاقتصاد.
ولذا يمكن القول إن مفهوم الأسر المنتجة، يتداخل فيه حقلان معرفيان، هما:- علم الاجتماع وعلم الاقتصاد، وقد نشأ مفهوم الأسر المنتجة، من طبيعة العلاقة الوثيقة التي تربط الإنسان بعملية الإنتاج، التي تعد جزءاً من النشاط الإنساني.
ويسمى هذا النشاط الاقتصادي، الاقتصاد الأسري، بوصف الأسرة وحدة اقتصادية، حيث تميزت المراحل الأولية من التنمية في الاقتصاديات عديدة الإنتاج باعتمادها على الأسر، خَاصَّة في عصر ما قبل الثورة الصناعية، حيث كانت الوحدة الاقتصادية الأسرية، تعتمد على العمل المتخصص الذي يقوم به أفراد الأسرة.
وفي هذا السياق تحضرنا الكثير من مظاهر الإنتاج الأسري المتخصص، في اليمن قبل ثورة 1962م، حيث كانت معظمُ الأسر تتوارث عدداً من المهن والحرف والصناعات والخدمات، ذات الطابع التخصصي، وبرزت أسماء أسر اشتهرت بنسبتها إلى المهن والحرف والصناعات والخدمات، التي كانت تقدمها للمجتمع، وتميزت بتوريث تلك المهن والصناعات جيلا بعد جيل، بالإضافة إلى الإنتاج الزراعي، الذي كان سمة بارزة في حياة المجتمع اليمني آنذاك.
ولم تتوقف أهميّةُ تلك المنتجات المحلية على تحقيق حالة من الاكتفاء الذاتي لدى تلك الأسر المنتجة، بل تعداه إلى تغطية احتياج السوق المحلية من تلك المنتجات، وتجاوز ذلك بالتصدير إلى الأسواق الخارجية، الأمر الذي عاد بالنفع على الاقتصاد الوطني، وأكسب المنتج اليمني شهرة وتميزاً.
وفي مرحلة ما بعد الثورة الصناعية العالمية، تحولت الأسرة من موضع الإنتاج إلى موضع الاستهلاك؛ بسَببِ دخول الآلة في صميم العمليات الإنتاجية، التي كان يقوم بها الإنسان، وبتكلفة أقلَّ غالبًا، وتحولت تبعاً لذلك طبيعة الدور المناط إلى الإنسان، حيث تحول أفراد الأسرة من العمل المنظم في إطار الإنتاج الجمعي، إلى العمل وفقاً للفرص المتاحة في المجالات المختلفة، وأصبح الإنسان الثروة المستنزفة، والمعرضة لأبشع أنواع الاستغلال الرأسمالي، في سوق الإنتاج الربحي المتوحش، والفاحش الثراء، وهناك لا تعدو قيمة الإنسان أكثر من كونه وسيلة أَو أداة يجب استغلالها إلى أقصى الحدود، بما يحقّق المزيد من الأرباح، دون مراعاة لإنسانية الإنسان، أَو أدنى المبادئ والقيم والأخلاق، الأمر الذي جعل الإنسان عبارة عن منتج، تحكمه معايير صلاحية الاستخدام، ضمن ظروف الإنتاج والانتهاء.
أهميّة دور الأسر المنتجة:
كان للإنتاج الرأسمالي المتسارع، القائم على الربحية المحضة، الأثر السلبي الكبير على وضع الفرد والمجتمع، حيث تحولت الأسرة من مدار الإنتاج والاكتفاء الذاتي، إلى مدار الاستهلاك الخالص، والاعتماد على المؤسّسات والشركات والمصانع الكبيرة، في توفير متطلبات وضروريات الحياة للفرد والمجتمع، وبالرغم من أهميّة دور الإنسان في عملية الإنتاج الرأسمالي الربحي، إلا أنه لم يتجاوز كونه مادة للإنتاج، وآلة لتحقيق مزيد من الأرباح، لصالح إمبراطوريات المال الكبيرة، وممالك الإقطاعيات واسعة الثراء.
وبناء على ذلك قامت امبراطوريات المال والإنتاج، بإعادة فرز العالم وتصنيفه إلى عالم متقدم منتج، وعالم متخلف مستهلك، ثم منحت نفسها حق استغلال الثروات البشرية والاقتصادية، الخَاصَّة بالشعوب المستهلكة، بحجّـة تنميتها وتطويرها، ولأن القاعدة تقتضي أن من امتلك المال، امتلك القوة والهيمنة، فقد نتج عن التبعية الاقتصادية -التي فرضتها الدول الرأسمالية الكبرى، على الدول النامية المستهلكة- تبعية سياسية، وصلت حَــدَّ الاستلاب والتسليم المطلق لسلطة المال وهيمنته، وهذا ما جعل الأوضاع في الدول النامية عامة، واليمن على وجه الخصوص، تسير من سيء إلى أسوأ، وإلى تدهور الوضع الاقتصادي، وتردي مستوى المعيشة إلى أفاق مظلمة لا نهايةَ لها، خَاصَّة في ظل العدوان الإجرامي العالمي، والحصار الأممي المطبق على اليمن، براً وبحراً وجواً، حيث كانت استراتيجية العدوان الأولى هي التجويع حتى التركيع.
وفي ظل هذه الظروف المعيشية الراهنة، التي تجاوزت صعوبتها وأعباؤها كُـلّ توصيف، كان لزاماً على الأسر اليمنية العودة إلى ماضيها الإنتاجي الاقتصادي، واستغلال التقنيات الحديثة في استعادة وتفعيل قنوات الإنتاج الموروثة، وابتكار خطوط إنتاج جديدة، تتناسب مع متطلبات وضروريات الحياة الراهنة.
وإذا كان نموذج الاقتصاد المنزلي يعبّر في طبيعته عن مرحلة تاريخية سابقة، في تاريخ المجتمع اليمني، فإن أسباب استعادته في اللحظة الراهنة تعود إلى شراسة الأزمة التي يعاني منها اليمنيون؛ بسَببِ العدوان والحصار؛ مِن أجلِ ترشيد الإنفاق والاستهلاك، وإيجاد حالة من التوازن بينهما، وتوجيه الأسرة لإنتاج ما تحتاج إليه من مواد استهلاكية أَسَاسية، إضافة إلى التخفيفِ من النزعة الاستهلاكية المرتبطة بحركة الأسواق، والسعي نحو تمكين وتكييف الاقتصاد المنزلي وآليات اشتغاله، بما يتناسب مع وضعية الفرد الذي بات يعتمد على القيم الاستهلاكية، من خلال بناء وعي مجتمعي جديد، يحمل في طياته ومضمونة أهميّة استعادة الذات المستلبة، وتفعيلها في إطار الإنتاج الجمعي، وتعزيز الثقة بين الذات والمجتمع، لتحقيق المزيد من التكامل والنجاح.