الأمم المتحدة كـ “واجهة” للعدوان: “الولاء السياسي” فوق القوانين الدولية والحقائق
المسيرة | خاص
في فضحيةٍ مدوِّيةٍ جديدةٍ تكشفُ التواطؤَ الأممي الصريح مع تحالف العدوان، وبعد أَيَّـام من تهديدها بقطع المساعدات، إن استمرت صنعاء بصرف “نصف راتب” للموظفين، أعلن الأمينُ العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، استبعادَ السعودية من القائمة السوداء للدول التي ارتكبت جرائمَ بحق الأطفال.
فضيحةٌ لم يمثلها فقط مضمون هذا القرار الذي تفوح منه رائحةُ الرضوخ المخزي للمال والنفوذ والإملاءات على حساب دماء الآلاف من الأطفال، بل أَيْـضاً توقيته الذي جاء متزامناً مع جريمة جديدة ارتكبتها السعودية في محافظة صعدة، وقتلت فيها 13 مواطناً بينهم نساء وأطفال.
هذه الفضيحةُ الأممية جاءت ضمن تقرير “غوتيريش” السنوي المقدم لمجلس الأمن، أمس الأول، والذي جاء فيه أن “التحالف سيُحذف من القائمة الخَاصَّة بقتل وتشويه (الأطفال) في أعقاب تراجع كبير في القتل والتشويه؛ بسَببِ الضربات الجوية، وتطبيق إجراءات استهدفت حماية الأطفال” بالرغم من أن التقريرَ نفسَه حمل “التحالف” مسؤولية قتل وتشويه 222 طفلاً خلال العام الماضي (لا غُرابةَ طبعاً في تقليل الأرقام بالنظر إلى الموقف المشبوه الذي باتت تتخذه الأمم المتحدة).
تزويرٌ واضحٌ للواقع وإعلان صريح عن الوقوف في صف الجلاد السعودي الذي أرسل في اليوم نفسه طائراتِه لتقصف المدنيين في محافظة صعدة، ما أَدَّى إلى استشهاد 13 مواطناً، بينهم أربعة أطفال دون سن الخامسة عشرة (فيصل الجاسري 14 عاماً، وغازي الوليدي 13 عاماً، وَعدل عمر جابر 14 عاماً، وَعبدالله البوجاني 12 عاماً)، الأمر الذي جعل الفضيحة الأممية تتضمن أَيْـضاً وقاحةً تليقُ بها.
القرار أثار سخطاً في الأوساط الحقوقية الدولية؛ لما مثّله من استهتار معيب بكل القوانين والأعراف الإنسانية، حيث قالت منظمة العفو الدولية: إن “قيام الأمين العام للأمم المتحدة بشطب اسم السعودية من تقريره السنوي عن الأطفال في النزاعات يضعُ الآليةَ برمّتها موضعَ تساؤلٍ جدّي”، وأضافت: “لعلّ الأمين العام كان يأمل في أن يكون الإعلام منشغلًا فلا يلاحظ هذه الخطوة السياسية بامتياز” في إشارة إلى رضوخه للنفوذ السياسي سواء للسعودية أَو لحلفائها.
وعلقت جو بيكر -مدير الدفاع عن حقوق الأطفال بمنظمة “هيومن رايتس ووتش” الدولية”- قائلةً: إن “الأمين العام جلب عاراً على الأمم المتحدة بإزالة التحالف الذي تقوده السعودية، من قائمة العار، برغم من استمرار التحالف في قتل وإصابة الأطفال في اليمن”، وأضافت: “أزال (غوتيريش) بشكل متكرّر، وبلا مبرّر، البلدان القوية من قائمته، رغم أدلة الأمم المتحدة الدامغة على الانتهاكات الجسيمة ضد الأطفال”.
المشاركةُ الأممية المباشرة في تجويع اليمنيين
إزالةُ السعودية من القائمة السوداء للجرائم المرتكبة بحق الأطفال، ليست الفضيحة الأممية الأولى التي تكشف حقيقة “الولاء السياسي” للأمم المتحدة، والذي ينحاز بشكل واضح فيما يخص اليمن إلى تحالف العدوان، فقبل أَيَّـام، أوضح المجلس السياسي الأعلى أن الأمم المتحدة هدّدت بقطع المساعدات عن اليمن، في حال استمر المجلس بصرف “نصف راتب” لموظفي الدولة، متماهية بذلك، وبصورة فجة، مع سياسة العدوان في استخدام “التجويع” كسلاح حرب، وهو الأمر الذي أقرت به الأمم المتحدة نفسها في تقارير خبراءها بشأن اليمن.
وقد عبّر هذا السقوطُ الأممي المدوي إزاء مسألة الرواتب عن أن دور الأمم المتحدة قد تجاوز مربع “الصمت” عن جرائم العدوان، إلى المساعدة الفعلية في ارتكابها، وتحويل نشاطاتها (التي يفترض أنها إنسانية) إلى “أوراق ضغط” في يد دول العدوان، خَاصَّةً وأن الأمم المتحدة نفسها كانت قد رعت اتّفاق “الرواتب” الخاص بإيرادات الحديدة، والذي تضمن أن تقومَ سلطاتُ صنعاء بإيداع إيرادات المحافظة في حساب بفرع البنك المركزي هناك، على أن تقوم سلطات المرتزِقة بإيداع الإيرادات التي تتسلمها إلى الحساب نفسه، ويتم تخصيص المبلغ لصرف مرتبات الموظفين بإشراف أممي.
قامت صنعاءُ بإيداع الإيرادات في ذلك الحساب، وقام “غريفيث” بزيارة البنك للإشراف على العملية، لكن حكومة المرتزِقة امتنعت عن تنفيذ التزاماتها وبشكل واضح، وعندما وجّه المجلس السياسي بصرف “نصف راتب” من المبلغ، إذَا بالأمم المتحدة تهدّد بقطع المساعدات، فيما كان المفترض بها الضغط على المرتزِقة لتوريد حصتهم ليتم صرف راتب كامل!
لقد كان إشراف الأمم المتحدة على اتّفاق الرواتب مُجَـرّد وسيلة فقط لممارسة ضغوط إضافية؛ بهَدفِ التحكم بما تبقى من إمْكَانات تحاول صنعاء أن تعوض من خلالها الموظفين عن التجويع الواضح والممنهج الذي يتعرضون له من قبل تحالف العدوان، والذي تعترف به تقارير الأمم المتحدة نفسها.
وقد أعقب “التهديدات الأممية” بقطع المساعدات، منع وصول سفن المشتقات النفطية إلى ميناء الحديدة، بالرغم من حصولها على تراخيص “أممية”، وهو ما يكشف حقيقة مشاركة الأمم المتحدة في تصعيد إجراءات الحصار والتجويع، ودورها الواضح كواجهة أُخرى لممارسة الضغوطات التي يحدّدها العدوان.
“الولاءُ السياسي” فوق القوانين الدولية وحقوق الإنسان
طبعاً هذه ليست المرة الأولى التي تتم فيها إزالة السعودية من القائمة السوداء للانتهاكات استجابة للنفوذ السياسي والمالي، ففي عام 2016، قام الأمين العام السابق للأمم المتحدة، بان كي مون، باستبعادها من القائمة بعد فترة قصيرة من إدراجها، لكنه لم يبرّر ذلك بأن السعودية قد “خففت عمليات القتل والتشوية” كما فعل خَلَفُه الوقح، بل أقر بوضوح أن السعودية استخدمت نفوذَها وطوّعت المنظمة الأممية لتنفيذ رغبتها.
وقال بان كي مون، آنذاك: إن الضغوط السعودية شملت “تهديدات بإلغاء تمويل برامج الأمم المتحدة”، وهو الأمر الذي أكّـدته وكالة “رويترز” وقتها، ومثل دليلا دامغا على أن “الولاء السياسي” والمال هي الأولويات القصوى التي يراعيها عمل الأمم المتحدة وليست القوانين الدولية، أَو حقوق الإنسان.
والواقع أن القائمة السوداء للدول التي ترتكب جرائم بحق الأطفال، ليست في الأصل سوى مُجَـرّد “تأنيب” أممي لهذه الدول، فهي لا تنطوي على أي إجراءات عقابية، بمعنى أن الأمم المتحدة وضعتها للتهرب من مسؤوليتها الحقيقية في الضغط لإيقاف هذه الجرائم، لكن يبدو أن الولاء السياسي للأمم المتحدة لم يعد يسمح لها حتى بتأنيبِ المجرمين الذين يدفعون لها.
ويبدو اليوم غضب الأمم المتحدة من صرف “نصف الراتب” وتهديدها بقطع المساعدات، مُجَـرّد امتداد للتهديد السعودي الذي استطاع إجبار الأمين العام السابق على إخراج السعودية من القائمة السوداء بسهولة قبل أربعة أعوام، ولا حاجة للتأكيد أن التهديد الأخير لم يكن سوى إملاء من صاحب التهديد السابق.