الإمام الحسن المجتبى.. ورياح السلام
أمين المتوكل
لم تكن رياحُ السلام حركةً وليدةَ يومها في المضمون والتوجّـه، بل لها امتداد كشفه التاريخ منذ زمن الأنبياء -عليهم السلام-، إلى تاريخ وحياة النبي -صلّى اللهُ عليه وآله- وبعده في تاريخ وحياة الأئمة الطاهرين من أهل بيت رسول الله -صلى الله عليه وآله-.
نعيش هذهِ الأيّام أجواء ذكرى شهادة الإمام الحسن المجتبى -عليه السلام-، والذي يحكي لنا التاريخُ بلوغَ ذروة رياح السلام في تاريخه وأيامه التي احتوت أعظمَ الابتلاءات في تاريخ الأُمَّــة هذه.
يأس الناسُ الحروبَ، وبدا التململ ماثلاً في صفحات وجوههم وظاهراً في مواقفهم، فمن عاش للدنيا وابتعد عن رضوان الله تعالى الذي يشده بديهيًّا إلى الثبات مع أعلام الهدى وأنوار الدجى من أهل بيت النبوة.
وهكذا كان الموقف لدى كثير من أصحاب الإمام علي -عليه السلام-، بعد أن عاشوا حروباً أراد الباطلُ فيها أن يدفن الحق المتمثل في علي -عليه السلام-، حين لم يرق لهم النزاهة المطلقة والشريعة السمحاء الآتية بعد مغيب غابت في سقيفة بني ساعدة.
لذلك رغب الكثيرُ عن الإمام علي -عليه السلام- إمام الهدى، الذي رأوا فيه رجلاً لا يرغب إلا بالحرب، ولم يكن يعلم قاصرو العقل والفكر أن النجاة في قوائم السيوف، وأن حالةَ الاسترخاء لها عواقب مشينة وقاهرة، وهذا ما حدث بالفعل.
بل وَاسترخص الكثيرُ نفسَه وباعها مقابل دراهم ودنانير ومعاشات معاوية التي فتح سواقيها الجارية، ليشتريَ الأنفس مقابل أن تبيع الأنفسُ الجنةَ، وبدا الكثير منهم يتسلل إلى معاوية.
نجد ذلك في رسالة سهل بن حنيف والي الإمام علي -عليه السلام- في المدينة المنورة، وكيف أجاب الإمامُ عليٌّ –عليه السلام- عليه.
في هذا الجوِّ المؤلم، حيثُ جنح الناسُ للسلم المفعم بالاستسلام والراضخ للمال والدِّعة والاسترخاء على آرائك الدنيا، يقول الإمامُ علي -عليه السلام- فيهم: “اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَمَلُّوني، وَسَئِمْتُهُمْ وَسَئِمُوني، فَأَبْدِلنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ، وأَبْدِلُهمْ بِي شَرَّاً مِنِّي، اللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ”.
كان هناك حرقة في قلب الإمام بهؤلاء الذين تجرّدوا حتى عن الإنسانية، وباعوا القيمَ والأخلاقَ بعد إقامة الحجّـة والاستبصار والبراهين، وتركوا دين الله في معترك المؤامرة، ما بين هروب من علي وجنوح إلى صفراء معاوية.
لم يختلف الزمنُ في زمن الإمام الحسن المجتبى -عليه السلام-، فهو الآخرُ أراد القتالَ والجهادَ ضد معاوية، ورأى أن عزّةَ الأُمَّــة وكرامتها ونيل الخير فيها هو في جهاد هؤلاء اللُّعناء.
ولكن.. تركوه وحيداً، بل وطعنوه في فخذه، وأكثر من مرة حاولوا اغتيالَه بعد أن وضع معاوية بن أبي سفيان جائزةً لمن يقتله.
كان لا بُدَّ من إقامة الحجّـة، فاجتمع الإمام الحسن بالناس ليرى مَـا هو توجّـههم، فألقى عليهم هذا الخطابَ العظيمَ وقال: “أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن كنا نقاتلهم بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم تتوجّـهون معنا ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن ودنياكم أمام دينكم، فكنا لكم وكنتم لنا، وقد صرتم اليومَ علينا، ثم أصبحتم تعدون قتيلين، قتيلاً بصفين تبكون عليه، وقتيلاً بالنهروان تطلبون بثأره، فأما الباكي فخاذل، وأما الطالب فثائر، وإن معاويةَ قد دعا إلى أمرٍ ليس فيه عزٌّ ولا نصفة، فإن أردتم الحياة قبلناه منه، وأغضضنا على القذى، وإن أردتم الموت بذلناه في ذات الله، وحاكمناه إلى الله بضبا السيوف”.
فنادى القومُ بأجمعهم: بل البقية والحياة، لا حولَ ولا قوة إلَّا بالله العلي العظيم.
اليومَ نرى توجّـهاتِ رياح السلام تريد أن تصنعَ من مجتمعات اليوم مقابل العدوان نفس المجتمعات أَيَّـام الإمام الحسن المجتبى -عليه السلام- والإمام علي -عليه السلام- وبشبه الدافع والإيحاء.
ماذا كان مصير الخذلان آنذاك، اقرأوا التاريخَ، ولو أردت أن أفرد بحثاً آخرَ لفعلت، وبإذن الله أفعل حول عاقبة خذلان الأُمَّــة لتركهم الجهاد مع أئمة الهدى -صلوات الله عليهم-، مما جعل التضحيات والكلفة أكبر مما لو كانوا جاهدوا وقاتلوا، ولعلَّ الكثيرَ تحسر وتمنى أنه لو قاتل.
حين نادى الناس أمام الإمام الحسن المجتبى -عليه السلام- بالبقية والحياة، عاشوا أَيَّـاماً وساعات سوداء أذهبت عنهم لذةَ الحياة والفوز بالنعيم المقيم في الآخرة.
فمن نعم الله علينا أن تاريخَ الأمس عِبْرَةُ اليوم، ولن ينسلخ هذا من ذاك.