ثورة 21 سبتمبر.. بين النظرية وحركة التجديد والاستقلال
المسيرة | عبد الرحمن مراد
تحدُثُ الثورةُ –كما يرى الكثير من المفكرين– “نتيجة وجود مقدمات وشروط محدّدة تبرز في إطار تطور المجتمع، تؤدي إلى وجود تناقضات أَسَاسية تتحدّد في التناقض بين الطابع الاجتماعي للإنتاج وشكل التملك الخاص، ويؤدي ذلك إلى اتساع الشعور بالظلم والاستغلال الذي يمارس من قبل فئة قليلة مالكة، وتؤدي هذه التناقضات إلى أزمة سياسية عميقة تحمل معها نشوء حالة ثورية تتجسد بنشاط الجماهير السياسي الواسع من خلال التمرد على الواقع بأشكال ومظاهر متعددة مثل المظاهرات والاجتماعات المعبئة والاعتصام، فالحالة الثورية هي تعبير عن التناقضات الموجودة في الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهي تمثل ذروة تفاقمها”.
إذن نحن بحاجة إلى التحليل والنقد وإعادة تشكيل وبناء الجسور والتواصل وإلى مقاربات سوسيولوجية علمية عقلانية، لمشكلات مجتمعنا العربي وتحدياته الثقافية والحضارية.
وَمعالجة الواقع الجديد – بالنقد والتفكيك – على ضوء أبرز الأدبيات العلمية والفكرية والأكاديمية المعاصرة أصبح ضرورة ثورية في سبيل توظيف ذلك الإنتاج الضخم ومفاتيحه النظرية لتحليل إشكالية مفهوم الثورة والهُــوِيَّة وتداخلهما مع ما تطرحه الرؤى الثورية التي تجتاح مجتمعاتنا العربية في ظل مناخ ما يسمى الربيع العربي فالثورة والهُــوِيَّة تركا في واقعنا مصفوفة من التحديات، نشهد آثارَها حولنا، تشظيًّا وتفككًا للمشتركات الجامعة، وتضخمًا غير مسبوق للانتماءات والولاءات الطائفية والمذهبية والإثنية.
فحديثُنا عن الثورة كحالة تبدل وتحديث لا يعني الانتقاص من قيمة المراحل وهو فهمٌ دأبنا عليه ولكنه يفترض أن ينزاحَ إلى حركة التجديد والتحديث فالحياة في تطور مستمر والجمود هلاك وتحلل وتأسن وهو حالة غير لائقة بالتمدن البشري في كُـلّ مراحل التاريخ وفي المقابل لوقوف عند نقاط مضيئة في الماضي لا يعني تطوراً وثورة، بل يعني الاستسلام والهزيمة لشروط الواقع وَأَيْـضاً فهماً قاصراً للحدث وتموجاته وارهاصاته، فقُدرةُ أيِّ حدث تُقاسُ من خلال الأثر الذي تركه في البناءات وليس من خلال الموقف الوجداني والانفعالي منه.
سلطةُ الدولة هي المحرك الحقيقي للحضارة:
هناك من المفكرين من يرى أن ثمة علاقةً وثيقةً وحاضرة بقوة لدراسة إشكالية الهُــوِيَّة والثقافة المتحَرّكة والثورية من جهة، وبين الوعي الاجتماعي والأيديولوجيا من جهة ثانية. وتكمن الفكرة الأَسَاسية في دراسات الثقافة والهُــوِيَّة والوعي في تحليل الصيرورات التاريخية التي تؤدي إلى تدميرٍ دائمٍ للأشكال الاجتماعية القديمة، لتحل محلها أشكالٌ جديدة – مسار الثوري -.
وأهم الخصائص الأَسَاسية للثقافة الثورية التحولية التي يتفق عليها علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع هي: اللغة، الخصوصية التاريخية، الاستجابة للحاجات الإنسانية، الشخصية الأَسَاسية كمدخل لفهم الثقافة الثورية.
” فالسوسيولوجيا تتعامل مع الدين؛ باعتبَاره عالمًا من الرموز والمعاني، ينتج روابط اجتماعية وثقافية، تُستعمل بطرق مختلفة، وفي تنظيمات مؤسّساتية واجتماعية متعددة تتمتع بجاذبية شعبيّة ظاهرة فعاليتها، وتعيد إنتاجها عبر فاعلين يمدون حقل العلاقات المتصلة به، بفاعلية قد تتجاوز المكان والزمان، لكنها تبقى على ارتباط بالواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والتاريخي، من حيث الممارسة، بوصفها فعل تدّين للجماعة، يتطور بتطور الواقع وهو متصل بدور المؤسّسات والبنى الاجتماعية عضويًا وتفاعليًا. وهو يقوم بوظائف محدّدة ويلبي حاجات ظاهرة وخفية”. (1).
“كُـلّ شخصية لها أصولها بالذات كنتاج اجتماعي، فهي ليست مُجَـرّد انعكاس للوسط المحيط بها، أي أن الوعي الاجتماعي السائد يتجسد في الفعل الاجتماعي؛ لأَنَّه ينضوي تحت “بنية معرفية معيارية” زودته بها الثقافة ومنظومة القيم والقواعد السلوكية الجماعية. وهذه البنية المعرفية المعيارية” بمثابةِ دليل ومرشد لوجهة العقل ومساراته، وتصبح بمنزلة “العناصر البانية للهُــوِيَّة” الاجتماعية والثقافية، والتي تميز الثقافة الجمعية المشتركة والسائدة في جماعة معينة”. (2).
***
إن حركة الأفكار والهُــوِيَّات في تحولها إلى أيديولوجيا، تصبح منظومة فكرية لها تنظيمها الذاتي ودفاعها الذاتي، والذي يتسم بصفة توليدية تجعله قادرًا على إعادة إنتاجها وحمايتها، وهذا ما عبّر عنه إدغار موران، بقوله:
“كل منظومة فكرية هي مغلقة ومفتوحة في آن، فهي مغلقة تحمي نفسها، ومفتوحة تغذي التأكيدات لصالحها. وهي على نوعين: منظومات يتصدر فيها الانفتاح كالنظريات، والآخر يتصدر فيه الانغلاق كالمذاهب. فالمنظومة الفكرية بصيغتها الهُــوِيَّاتية الثقافية العامة، يتصدر فيها الانفتاح، وهي عكس الأيديولوجيا”.
وعندما تبلغ الهيمنة الثقافية درجة متقدمة، يصبح معيار التقييم والمفاضلة بين الثقافات محصورًا في تقليد “النموذج” المتفوق، وتعيش الثقافة المغلوبة أزمة هُــوِيَّة، تحتاج الثقافة -بما هي هُــوِيَّة ناقصة في جوهرها- إلى أن تستكمل ذاتها بالدولة، لتصبح هي ذاتها حقيقية، فقد أرست الثقافة بصفتها سياسة قاعدة “الدولة – الأُمَّــة”.
فالهُــوِيَّة ظاهرة حركية مستمرة في التاريخ، تكتسب المعنى والمضمون، كتجربة إنسانية خاضعة لصيرورة العيش والصراع وتحديات الواقع، إنها معطيات وعوامل تمنح الإنسان، بصفته الفردية، والمجتمع كإطار تفاعلي للجماعة، الشعور بالوجود والانتماء والمصير المشترك، وحين يضعف هذا الشعور ويسير في طريق الاضمحلال والضمور تواجه الجماعة مصير التفكك والضياع والتيه الأمر الذي يجعل الجماعات لقمة سائغة لحركات الاستعمار.
ومن هنا يبرز السؤال الذي يقول:
ما الذي دفع بالوعي العربي نحو منحدر الهُــوِيَّات الطائفية والمذهبية والإثنية والقبلية، من خلال إحياء كيانات ما قبل الدولة الوطنية في زمن ثورات الربيع العربي؟
لقد تسبب الطابع العسكري لأنظمة الحكم الثورية العربية في القرن العشرين في أزمة الهُــوِيَّة، وفشل الدولة القطرية، وفشلت في إدماج مكوناتها الأولية القبلية والطائفية والمذهبية في بنتيها، بل الثابت أنها عززت المكونات الأولية وسعت إلى توظيفها كأدوات في صراعها للاستحواذ على السلطة؛ لذلك فالدولة العربية فشلت تماماً في بناء نماذجها القومية أَو الوطنية، بل فشلت أَيْـضاً في بناء الدولة ذاتها، كمؤسّسات وإطار للمواطَنة.
وهذا الفشل عمل على تنمية جذور العنف، وجذور الحرب المعولمة، ومهد الطريق إلى السلاح ومثل ذلك ظاهرة متأصلة في البنية التاريخية للنظام العالمي، وهي في التشكيلة التاريخية للهيمنة الغربية المتجذرة في فائض القيمة التاريخي منذ القرن الخامس عشر وما تلاه.
فالشيء الأَسَاسي في التحليل البنيوي للهيمنة الغربية، ليس محصوراً في الميل إلى الحروب، إذ الأحرى تسليط البحث وتركيزه على تشكيلة فائض القيمة التاريخي.
إذ أن الموجة الأولى للغزو، والنهب، والتغلغل، والاحتلال، كان لضرب المنطقة الإسلامية العربية أي منذ القرن العاشر الميلادي حين غزوات الفرنجة إلى العسكرية الصهيونية التي نشهد حركتها وفاعليتها اليوم.
الثورةُ اليمنية وضروراتُ التحديث:
حملت حركاتُ التحرّر في القرن الماضي الكثير من الاجابات عن السؤال الحضاري وقطعت شوطا -قد يكون صائباً أَو خاطئا لكن له حظَّ وأجر المجتهد- في التفاعل مع السائد ووضعت شروطا جديدة في علاقة الإنسان بالدين وبالعلم وبالكون وبالحضارة والمجتمع والاقتصاد والتقنية والفن والسياسة وإن شاب ذلك البطء في حركة التطور والعنف في أحيان كثيرة كصفة لازمة للحركات الثورية في ذلك الزمن إلا أنها حاولت أن تحدث قدراً من التحديث في سبيل النهضة.
كان العربُ في القرن العشرين صورةً مماثلةً للماضي الذي جثم على صدورهم منذ القرن السادس عشر الميلادي يعيشون واقعاً مريراً ومآسيَ كثيرةً وأوضاعاً معقدة سواء في الجانب المادي اليومي أَو الرمزي الحياتي ووصل الركود والجمود إلى المقدس والوجدان واللغة والتقنية، أي أن الواقع كان يتسم أَو يمتاز أنه واقع مأزوم تاريخه معطل وغير مكتمل منذ سقوط بغداد في القرن الثالث عشر الميلادي إلى القرن العشرين وهو تاريخ يمتد لقرون لم يعرف العرب فيه طَعم الاستقلال الحقيقي ولا معنى الحرية الكاملة ولم يصلوا إلى زمنهم التحرّري الذي اتسم به النصف الأول من القرن العشرين إلا بعد حروب وأزمات ونضالات وتضحيات وبعد هدر كبير للطاقات المادية والبشرية والثقافية والرمزية والنفسية، وبالرغم من كُـلّ ذلك إلا أن العربَ لم يصلوا إلى مبتغاهم في التصالح مع التاريخ الذي يحقّق لهم القدر الكافي من التوازن في العلاقات مع الآخر أَو في فك الإشكاليات بين قضايا شائكة مثل الأصالة والمعاصرة والتراث والتاريخ؛ ولذلك لم تكتمل نهضتُهم؛ بفعل عوامل المستعمر وتداخله في صناعة واقعهم فقد رحل المستعمر عن الديار العربية شكلاً وظل يتحكم بالمصير العربي وبمصادر الطاقة ضمناً؛ ولذلك نقول: إن التاريخَ قد مكر بالعرب ولم يتحقّق لهم الاستقلال.
التاريخُ العربي يختلفُ عن غيره؛ لأَنَّه يخضعُ لمنطقٍ مختلف ومتغاير عما سواه؛ ولذلك نقول باستحالة نقل التجارب الغربية أَو غيرها، فالتاريخ لا يستورد كما نستورد السلع، والوعي بضرورة الإصلاح لا يعني بالضرورة الرجوع إلى صدر الإسلام، كما تذهب بعض الفرق، فذلك مستحيل وفي المقابل لا يعني نقل تجارب الغرب المتحضر فذلك مستحيل أَيْـضاً؛ باعتبَار الحداثة ليست تحديثاً ولكنها نسق فكري ثقافي حضاري تقدمي تقدم عليه أُمَّـة أَو جماعة لإنجازه بخطاب وتقنيات ومعطيات قادرة على التفاعل وفرض طابعها الخاص التي تتسم به المرحلة أَو يتسمُ المستوى الحضاري الحديث.
فالثورةُ الحقيقية هي التي تحمل مشروعَ دولة ومشروع مجتمع وتكون على قدر من التحرّر من الغرب ومن الماضي لتبدع وتبتكر واقعًا جديدًا يمتاز بالاستقلال والمعرفة والخصوصية التي تكون تعبيراً عن العرب والمسلمين وعن هُــوِيَّتهم الثقافية والحضارية ذات رؤية في البناء الذي يقضي على الشتات السياسي ويحاول إنجاز القوة الاقتصادية والديمغرافية في عالم أصبح ينمو بسرعة البرق في اتّجاه التكتلات السياسية والاستراتيجية الكبيرة والفاعلة في القرارات الإنسانية الكبرى من حروب وسياسات وثقافات وغيرها من الأدوات القادرة على الاقصاء والاضعاف.
مشكلتنا في مجتمعاتنا العربية أننا نرى الوصول إلى السلطة هو الغاية وحين نصل إلى السلطة لا نفكر في مشروع بناء الدولة؛ لذلك وقعنا في عمق الأزمات المعقدة ولم نستطع حَـلّ قضايا حقيقية ومعقدة ومتكاملة ومرتبطة ببعضها مثل فكرة الاستقلال وفكرة تطوير المجتمع وتحديث قانون حركة التغيير في الطبيعة والمجتمع.
فلا يمكن اختزال حركة الثقافة والمجتمعات إلى “نمطية مماثلة”؛ كونها ليست جامدة أَو ميكانيكية، وبالتالي فالتيار النظري والمنهجي الذي يعتمد مقاربة ثقافية دينامية، ينظر إلى الفرد بوصفه فاعلًا اجتماعيًّا، يؤثر ويتأثر ويفعل ويتفاعل، في بيئة اجتماعية وثقافية محدّدة، لتصبح التشكيلات الاجتماعية، كخيارات الولاء والانتماء، معطًى يشارك الأفرادُ في تكوينه. ومع هذا التصور الدينامي للثقافي، تدرك الهُــوِيَّة بحد ذاتها كجدل إنساني واجتماعي، وتكون الهُــوِيَّة في ضوء هذه المقاربة صيرورةً تكوّن نسقًا ذا معنى عند الفرد الذي يتفاعل مع آخرين، بالوقت نفسه الذي يتفاعل فيه مع النسق الرمزي بشقيه الموروث والسائد، حيث يتطورون معًا. ووفق تحقّق الهُــوِيَّة كصيرورة جدلية، بالمعنى التكاملي للأضداد، فهي تجيز بذلك بروز الفروق الفردية، ومطابقة الفرد مع الجماعة التي ينتمي إليها، وفي ضوء هذه المقاربة فقط، يمكن فهم: كيف يصبح الفرد عاملًا في بناء ثقافته وفي بناء هُــوِيَّته الذاتية، وكيف يكوّن هؤلاء الأفراد أنظمة ثقافية جماعية تتخطاهم كأفراد.
ولذلك نقول إنه لا يجوز تحليل الوعي المجتمعي، من خلال مواقع طبقية أَو إيديولوجية واحدة؛ لأَنَّه سيكوّن قراءة منحازة، فنحن نخطئُ إذَا استنتجنا أن الأفكارَ التي تحَرّك الفرد موجودة في الفرد وحدَه، فالتفكير يقوم به الناس في جماعات معينة، وضمن سياقات كانت قد طورتها لنفسها كأُسلُـوب خاص في التفكير، وهو ما يمكن اعتباره تشكلًا لـ “هُــوِيَّة ثقافية”. وبعض المفكرين يرى أن الناس يعيشون في جماعات لا يكنون فيها كأفراد منفصلين، بل يتصرفون مع أَو ضد بعضهم، ضمن جماعات متنوعة التنظيم.
ثورة 21 سبتمبر:
علينا أن نعيَ أن الربيعَ العربي عمل على تفكيك النظام العام والطبيعي في بنية المجتمع، وهو الأمر الذي عزّز من الهُــوِيَّات التاريخية والثقافية وأنتج كياناتٍ في ظاهرها الجِدةُ والعصرنة، وفي كوامن جوهرها الامتداداتُ التاريخية التي تحاول إعادة التكيف مع الواقع الجديد، ولن تكونَ تلك الكيانات الجديدة إلا كيانات متصارعة تبحث عن الوجود والبقاء والحفاظ على القيمة والمعنى.
إن غيابَ المشروع الحضاري الجامع كان سبباً في ملء الفراغات التي تشتهي الامتلاء، فغياب المشروع لم يحمل دلالة الربيع العربي بل كان دالاً على عدميته، والعدمية لا تنتج إلا عدماً مثلَها وتشظياً، يتناثر على إثرها الوطن إلى دويلات متعددة.
لقد أظهر المثقف العضوي «الأحزاب والمنظمات» فشلاً ذريعاً في صناعة واقع أجدَّ يتوازى وأحلامَ وتطلعاتِ الناس؛ ذلك لأنه يتمحور حول الأيديولوجيا أَو حول النص ولم يتجدد، وتبعاً لذلك، فقد عجز عجزاً كاملاً عن ضبط إيقاع المفهوم وشاعت في ممارسته وتعاطيه وتفاعله مع إحداث الفوضى (سقوط الأيديولوجيا) والفوضى لا تصنع مستقبلاً آمناً ومستقراً ولكنها تمهد الطريق للماضي؛ لكي يتمظهر بمظاهر الثورية والتطلع، ولا تجد نفسها -أي الفوضى الشائعة- إلا في موقف المبرّر والمدافع، ومثل ذلك أصبح ملحوظاً ولا يمكن تجاهله، وغياب المثقف الحقيقي والفرد كان نتاجَ استبداد وإقصاء ونتاج واقع تم تكريسُه في الوجدان الجمعي لا يحتفي إلا بالشكل والأدعياء دون النفاذ إلى جوهر الأشياء؛ لذلك كان المهاد لثورة 21 سبتمبر كضرورة تعيد نسقَ النظام العام والطبيعي إلى سياقه فقد فرضت الضرورة نفسها ومهدت لقيام الثورة.
لقد مارس ذلك الواقعُ قمعاً وإرهاباً فكرياً ونفسياً واجتماعياً توارى على إثر ضرباته المثقف الحقيقي ليبحث عن قيمته في ذاته ولم يجدها، ورأينا كيف أنّ ذلك الواقع لم ينتج مثقفاً نوعياً يكون امتداداً للجيل التنويري، وغياب المثقف الحقيقي دالٌّ على غياب البُعد الحضاري، إذ أن ثمة تلازماً عضوياً بين البُعد الحضاري والنهضة الفكرية والثقافية والإبداعية، وسياقات التاريخ تحدثت عن ذلك التلازم، فالبُعد الحضاري لم يكن إلا نتيجةً لمقدمات موضوعية ومنطقية، واستقرار الأوطان يظل رهن وعي نخبها، ويقظة الهُــوِيَّات التاريخية لن تكونَ إلا رهنَ الممارسات الخاطئة التي تقوم بها الأنظمة؛ لذلك فَـإنَّ دعوات فك الارتباط التي شاعت في الخطاب السياسي ليست إلا نتيجة لمقدمات خاطئة، واتّساع دائرة تلك الدعوات من الجنوب إلى إقليم تهامة، إلى صعدة، إلى أبين… إلخ ضاعف من الشعور بالتفرد والاستقلالية ويضاعف من الإحساس بالضيق بالآخر، وهو الأمر الذي يصطلح عليه بـ«تجزئة الهُــوِيَّة الوطنية» ومظاهر تجزئة الهُــوِيَّة دالة على وجود خلل في المنظومة الاجتماعية والثقافية والسياسية؛ لذلك فتفعيل دور المثقف الفرد والنوعي وتفاعله الإيجابي ومشاركته قد تخفف من وطأة الأحداث وتحد من امتدادها وتساعد في لملمة المتناثر لوعيه ولأهميته العضوية ولإدراكه لنتائج المقدمات والقرارات وهو الدور الذي تجهد ثورة 21 سبتمبر للقيام به.
والدورُ الثقافي في المراحل التي تتسعُ فيها الهُوة ويتعذر على الراقع رتق الخرق هي من أشد المهام تعذراً على التحقّق وأشدها صعوبة لكن بالفكر نستطيع توحيد جميع الجماعات على اختلاف مشاربها الفكرية والمذهبية، وحتى نتمكّن من إحداث متغير في الصورة النمطية التي تسيطرُ على أذهانِ الجماعات والفرق ضد بعضها البعض في إطار مشروعنا الإسلامي علينا أن نحدثَ قدراً من تفريغ الطاقات الانفعالية بما يخدُمُ فكرةَ التوحيد لا الشَّتات، وبما يعزز من قيمة الأُمَّــة لا بما يضاعف من شتاتها ويعيق تقدمها ونهضتها؛ ولذلك من الحكمة أن تشترك الجماعات والفرق المختلفة في إدارة الدولة وتدير حواراً توافقياً يلبي مقاصدَ الإسلام وفي السياق يذيب كتل الجليد بين الجماعات والفرق ويفتح باباً من التقارب والتوحيد في الطاقات حتى تكون عصية وصامدة في تقبل مشاريع الاستهداف التي تنال من الأُمَّــة ومن وحدتها ومن هُــوِيَّتها الحضارية والإيمانية والثقافية.
فتفعيل دور المؤسّسة الثقافية بكل مستوياتها في الاشتغال على الهُــوِيَّة الإيمانية والثقافية والحضارية سيقطع الطريق أمام الاستخبارات العالمية في استغلال الطاقات الانفعالية والعصبيات الدينية والنفاذ من خلالها إلى تشكيل الجماعات التي تعمل على تشويه الإسلام وتعمل على تفكيك الوحدة الوطنية وتنافر النسيج الاجتماعي وتمتين الهُــوِيَّات يعمل على توظيف الطاقات بما يخدم مسارات الأُمَّــة الحضارية ويكفل استقرارها وعدم تنازعها حتى لا تفشل كما فشلت في تاريخها المعاصر وهي قد تحد من ظواهر العنف وتعي ماذا تريد وماذا يراد منها؟.
الخلاصة:
كل حركة ثورية حقيقية تطمح إلى تحول تاريخي عميق يجعل منها مركزًا مهمًّا في حركة التاريخ ويمكِّنُها مع غيرها من صنع القرار والمبادرة والإسهام في الحضارة الكونية كنِدٍّ وليس كتابع، وهذا ما كانت عليه حركات التحرّر في القرن الماضي قبل أن تصاب بالثبات والجمود وقبل أن تتعرض للمؤامرات والاستهداف كالناصرية مثلاً -وهي تجربة يمكن الاستفادة من تفاعلها مع حركة التاريخ في زمنها ومثل ذلك من تمام الحكمة والعقل، إذ لكل تجربة مراكزُ قوة ومراكزُ ضعف، وقراءةُ التجارب تجعلنا أكثر تمكُّناً من التحكم في مقاليد الثورة والمستقبل– وهذا هو الحال ذاته الذي عليه ثورة 21 سبتمبر وهي ثورة تسعى إلى الاستقلال الكامل والحرية الكاملة وتحاول أن تحدث تقدمًا تاريخيًّا وهي تخوض حرباً ضروساً؛ للوصول إلى هدفها ولا نحبذ بعد الحروب والأزمات والنضالات والجهاد في كُـلّ الجبهات والهدر للطاقات المادية والبشرية أن نصل إلى ذات النتائج التي وصلت إليها ثورات القرن الماضي وحتى لا نصاب بالعمه التاريخي لا بُـدَّ من القراءة العميقة وسد الفراغات ولاشتغال على المستويات المتعددة للوصول إلى الغايات.
ولذلك لا بُـدَّ لثورة 21 سبتمبر أن تحل الإشكالات الفكرية والسياسية وأن تقفَ أمامها بمسؤولية تاريخية وأخلاقية وتتمثل في قضايا معقدة ومتشابكة وذات تواشج مثل كيفية القضاء على الإرث الاستعماري، وتحديد المفاهيم التي عمل المستعمر على تعويمها مثل الحرية الوطنية الاستقلال… إلخ، وعليها أن تواجه سؤالَ بناء الدولة الوطنية والدولة القومية، وكيفية ضمان كرامة الإنسان العربي والمسلم للوصول به مرتبةَ المواطن الفاعل والخروج إلى واقع ثقافي جديد بهُــوِيَّة عربية مسلمة.
لعل اشتغالَنا على صناعة وعي جديد وواقع جديد هو من تمامِ الوعي الثوري، فالثورة كما سلف معنا في السياق هي أُسلُـوبٌ من أساليب التغيير الاجتماعي تشمل الأوضاعَ والبُنَى السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وعملية التغيير لا تتبع الوسائلَ المعتمدة في النظام الدستوري القديم للدولة وتكون جذرية وشاملة، تؤدي إلى انهيار النظام القائم وصعود نظام جديد ويفترضُ أن يكونَ تقدمياً قياساً بسابقه، ويترتب على نجاح الثورة سقوطُ الدستور وانهيارُ النظام الحكومي القائم ولكن لا تمُسُّ شخصيةَ الدولة ومؤسّساتها وكادرها في مختلف المجالات، ولا تؤدي إلى إنهاء العمل بالتشريعات السابقة عليها بطريقة فوضوية، وخَاصَّةً الإيجابية منها وذات الصلة بالحياة العامة، فليست كُـلُّ ما في النظام القديم بالياً ويستحقُّ السحقَ والإبادة، فهذا نوعٌ من السلوك التدميري للدولة برمتها وإعاقتها من العمل مجدّدًا.
***
1-عبد الغني عماد، سوسيولوجية الهُــوِيَّة وجدليات الوعي.
2- نفس المصدر.