ألفُ شمعة أضاءت المسيرة
عـبدالله علي صبري
وطاقمُ صحيفةِ المسيرة يحتفلُ بالعدد الألف، تعودُ بنا الذكرياتُ إلى البدايات الأولى لانطلاق الصحيفة، في خضم مشهد ثوري صاخب بالأحداث والمستجدات، بلغ ذروته مع انتصار الثورة وتوقيع اتّفاق السلم والشراكة في 21 سبتمبر 2014م، ما جنّب صنعاءَ العاصمةَ ويلاتِ حرب أهلية طائفية ظن دهاقنة السياسة والارتزاق أنَّ بمقدورهم جَــرَّ الثوار إلى مستنقعها، ولم يدُرْ بخلدهم أن وراءَ هذه الثورة قيادة حكيمة، أمكن لها أن توجّـه المسار نحو الحسم الثوري بأقلِّ قدر ممكن من الخسائر.
وكان من حسن الطالع بالنسبة لصحيفة المسيرة، أنها وإن تأخر إصدارُها رغم انطلاق فضائية المسيرة قبل ذلك بنحو عامين، فقد جاءت الصحيفة لتواكب الثورة الشعبيّة ومستجداتها، وما تلا ذلك من تدخلات خارجية أفضت إلى العدوان السعودي الأمريكي على بلادنا في مارس 2015م، وما قابله من ملحمة صمود شعبيّة وتاريخية، وثقتها صحيفةُ المسيرة، التي كان عليها أن تنتقلَ من الإصدار الأسبوعي إلى الإصدار اليومي، برغم كُـلّ المعضلات التي واجهت الصحافة المكتوبة في بلادنا، جراء استهداف العدوان للإعلام الوطني بمختلف مؤسّساته، وعزوف غالبية القراء عن متابعة وسائل الإعلام التقليدية، بعد أن فرض الإعلام الجديد ومنصات التواصل الاجتماعي، حضوراً كَبيراً ولافتاً تتصاعد مساحتُه يوماً بعد آخر.
رأت صحيفة المسيرة النور في 13 أغسطُس 2014م، وتزيّن العددُ الأول بمقابلة صحفية مع قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي، الذي كان ولا يزالُ مقلًّا في الأحاديث الصحفية، وهو ما منح صحيفة المسيرة في باكورة انطلاقتها دفعة معنوية كبيرة، خَاصَّة بعد إقبال الجمهور على شراء الصحيفة، حتى نفدت من الأسواق، ما جعل هيئة التحرير تسارع إلى إصدار طبعة ثانية من ذات العدد.
وحيث أني شرفت بالعمل مع رئيس التحرير التنفيذي الزميل صبري الدرواني، وطاقم الصحيفة مع البدايات الأولى، فلا بُدَّ من استحضار حقيقة أن الصحيفةَ انطلقت قبل كُـلِّ شيء، معتمدة على همة القائمين عليها، فقد كانت الإمْكَاناتُ الماديةُ والبشرية محدودة جِـدًّا، بينما كانت الأحداث المتسارعة تضغط بشكل يومي على رئيس التحرير بالإسراع أَيْـضاً في الإصدار، حتى لا تظل ساحةُ الصحافة المكتوبة اليمنية خاليةً من موقف ورأي أنصار الله، الذي كان يحضر في الصحف الصديقة الأُخرى على نحو خجول وغير متوازن.
ومما ضاعف من صعوبة العمل الإعلامي بالنسبة لأنصار الله، أن القيادةَ راهنت على القدرات الذاتية للشباب وتطوير مهاراتهم، والصبر عليهم حتى ينخرطوا على نحو واثق في مجال الصحافة والإعلام بمختلف فنونه، مع مواكبة كُـلِّ التطورات في عالم الميديا، وقد رأينا كيف انطلقت قناةُ المسيرة على نحوٍ متواضعٍ، ثم سرعان ما تطوّر أداؤها، فخطفت الأضواءَ على مستوى الداخل والخارج، وقصة النجاح هذه هي التي دفعت طاقمَ صحيفة المسيرة، إلى استلهام هذه التجربة والبناء عليها، والتحَرّك في خطوة عملية لا تسمح بالتوقف أَو التراجع، وقد كان.
هكذا صدر العددُ الأول، فدارت العجلةُ وتوالت الإصدارات الأسبوعية، وتصاعد الزخم الثوري في الساحات، وحظيت صحيفة المسيرة بانتشار جيد بين جمهور الأنصار وغيرهم، ليس في أمانة العاصمة فحسب، بل وفي عدد كبير من المحافظات، خَاصَّة تلك التي شاركت في مسيرات الانتفاضة الشعبيّة المضادة للجرعة والزيادة في أسعار المشتقات النفطية، ولفساد الحكومة المالي والسياسي، وتلك المديريات التي نصبت مخيمات الاعتصام السلمي حول العاصمة صنعاء، فكانت أكبرَ مددٍ للثورة، وأنجعَ وسيلةٍ لحماية الثوار.
وفي هذا العدد، رسم السيد القائد عبدالملك الحوثي، ما يشبه خارطة الطريق للصحيفة ولسياستها الإعلامية، حين بارك لهيئة التحرير هذه الخطوة بقوله: نأمل من الله أن يوفق هيئةَ تحرير الصحيفة، كي تكون الصحيفة إشراقة نور تجلي الحقيقة، وتبدد عتمة الظلمات، وتسقط الزيف، في زمن أصبح للإعلام التأثير الكبير في كلا الاتّجاهين، فهو وسيلة تبصير وتنوير وتوجيه للرأي العام إلى الاتّجاه الصحيح، وكشف للحقائق في إطار الصادقين والناصحين من أتباع الحق وأنصار الحقيقة، وهو من جهة أُخرى وسيلة يعتمد عليها الطغاة والمستكبرون إلى حَــدٍّ كبير، لتزييف الوعي، وطمس الحقائق، ولبس الحق بالباطل.
وقد أضاءت مفرداتُ المقابلة وعناوينها على الثوابت التي يؤمن بها أنصارُ الله ومن ينخرط في مسيرتهم القرآنية، وكان لافتاً أن السيّدَ القائدَ قد استشرف المستقبل القريب للأُمَّـة وللقوى السياسية في اليمن وفي الوطن العربي، حين قال بكل وضوح: إن القضيةَ الفلسطينية غدت معياراً لفرز العدوّ الحقيقي للأُمَّـة، يومها كان القناعُ لا يزال يحجب عن الناس حقيقة الخيانات التي تكشفت بجلاء مع يوميات العدوان والحصار السعودي الأمريكي على اليمن، وُصُـولاً إلى الإعلان مؤخّراً عن التطبيع الإماراتي مع الكيان الصهيوني، والتمهيد لخطوات مماثلة تعتزم أنظمةٌ عربية أُخرى السيرَ على دربها للأسف الشديد.
وإذا كان العدد الأول قد تتطلب استعدادات مبكرة نوعاً ما، فقد جاء العددُ السابعُ في ظروف أمنية صعبة، حيث بلغ التصعيد الثوري مداه، بالتوازي مع المسار السياسي الذي اضطلع به المبعوث الأسبق للأمم المتحدة جمال بن عمر، فجاء توقيعُ اتّفاق السلم والشراكة بين الأحزاب والمكونات السياسية بعد ساعات من سقوط معسكر الفرقة الأولى مدرع، وهروب الجنرال علي محسن الأحمر -الذي ناصب الثورة العداء- إلى خارج البلاد.
ولأنَّ مقر الصحيفة كان مجاوراً لمربع المواجهات المسلحة قبيل أَيَّـام من انتصار إعلان الثورة، فقد تعذّر على هيئة التحرير الوصول إلى موقع العمل، ما جعل رئيس التحرير يبحثُ عن مقر بديل وفي وقت قياسي، وقد استغربت منه حين تواصل بي طالباً المشاركةَ في إصدار العدد، ومؤكّـداً أنه اختار مكاناً آمناً، وبالفعل فقد شاركت مع هيئة التحرير تلك الليلة الساخنة بكلِّ مفاجآتها المتوالية، فقد شهدت صنعاءُ انتصاراً كَبيراً ودراماتيكيًّا للثورة الشعبيّة، حين أمكن للجان الشعبيّة والثورية، إحكام القبضة على العاصمة، وإخماد ردات العنف التي اضطلع بها بعض القادة المتهورين تحت توجيهات علي محسن الأحمر، وفجأةً سمعنا أن معسكرَ الفرقة الأولى مدرع بكل رمزيته قد سقط بشكل سريع، وأن قائد اللواء الفعلي للمعسكر قد فر ناجياً بجلده لا يلوي على شيء، فيما كان قادة الأحزاب السياسية مجتمعين لدى الرئيس هادي طوال نهار وليلة ذلك اليوم، وإذ توالى إعلانُ تأييد الثورة الشعبيّة من قطاعات مهمة مدنية وعسكرية، فقد بادر رئيسُ حكومة الوفاق محمد سالم باسندوة إلى إعلان استقالته من الحكومة، وذلك في رسالة منشورة موجهة إلى أنصار الله، قال فيها إنه قرّر تقديمَ استقالته حتى لا يكون وحكومته عائقاً أمام أي اتّفاق بين جماعة أنصار الله وعبدربه منصور هادي.
ولم تمر ساعات قليلة جِـدًّا، حتى بثّت قنواتُ التلفزة المحلية والخارجية خبر التوقيع على اتّفاق السلم والشراكة، ليعلن أنصارُ الله على إثرها انتصارَ الثورة الشعبيّة، وهكذا جاء مانشيت العدد بخط عريض: “وانتصرت ثورة الشعب”، كما استوعب الغلافُ عناوينَ أُخرى حاولت إبراز الحدث الذي كان أكبر من استيعاب هيئة التحرير، بل وكان محيراً لكلِّ المراقبين في الداخل والخارج.
ومع صبيحة 22 سبتمبر، وبينما كان العدد تحت الطبع، كانت صنعاء تتنفس الصعداء، وقد انتصرت الثورةُ بأقل الخسائر، ودون أن تتضرر الحركة والحياة اليومية للناس، وهو ما لمسته بنفسي فقد تحَرّكت راجلاً وراكباً في عديد من شوارع العاصمة، عائداً إلى منزلي، بينما كانت اللجان الشعبيّة حاضرة على نحو محدود، تحسبًا لأية اختراقات أمنية، وبدا الوضعُ طبيعيًّا وآمناً على نحو كبير.
دخلت اليمن مرحلة جديدة، وغدت صحيفة المسيرة أمام تحدٍّ كبير جديد، فالأحداثُ أكبرُ من أن يستوعبها عدد واحد في الأسبوع، وهكذا جرى التخطيط بسرعة لإصدار العدد الثامن لمواكبة الانتصار الشعبي الذي احتضنه ميدان التحرير بالعاصمة صنعاء، وأطل من خلاله قائدُ الثورة، معلناً أن الشعب اليمني بكله قد انتصر، فلا غالب ولا مغلوب، ومطمئناً الجماهيرَ بأن الثورة ليست في وارد تصفية الحسابات أَو الثأر والانتقام، ومؤكّـداً أن اليد ممدودة للسلام مع حزب الإصلاح، وأن الثورة ستقف إلى جانب المظلومية الجنوبية حتى إنصاف الجنوبيين وحل قضاياهم، وبعدها بأيام صدر العدد التاسع، متضمناً حواراً خاصًّا مع الأُستاذ محمد عبدالسلام الناطق الرسمي لأنصار الله.
وتوالت في الأعداد التالية حوارات خَاصَّة انفردت بها الصحيفةُ ورئيس تحريرها صبري الدرواني، الذي أجرى حواراً مع المستشار السياسي لرئيس الجمهورية الأُستاذ صالح الصماد -رحمة الله عليه-، كما انفردت الصحيفةُ بحوار أخير مع الشهيد الدكتور محمد عبدالملك المتوكل عشية فاجعة اغتياله في 2 نوفمبر2014م، وحاورت الصحيفة أبو أحمد محمد علي الحوثي رئيس اللجنة الثورية العليا، وانفردت بحوار هامٍّ مع الرئيس السابق علي ناصر محمد، ولم تغب عن حوارات الصحيفة قامة وطنية مثل أديب اليمن الكبير الدكتور عبدالعزيز المقالح.
ومع أن الثورةَ الشعبيّةَ كانت متسامحة كَثيراً مع النخبة السياسية التي ثبت فيما بعد مدى عمالتها وتبعيتها للخارج، إلا أن القوى التقليدية وبدعم سعودي عملت على إفشال الثورة، ومحاولة الفكاك من التزاماتها الوطنية بموجب اتّفاق السلم والشراكة، فحرّكت الكثيرَ من الأوراق في وجه الثورة الشعبيّة، بما في ذلك ورقة الإرهاب، والعمليات الانتحارية التي تبنتها القاعدة، واستهدفت التجمعاتِ الثورية، بدءاً بالتفجير الدموي بميدان التحرير في أكتوبر 2014م، وإلى التفجير المروع في جامعي بدر والحشحوش في مارس 2015م، بالإضافة إلى اغتيال الدكتور محمد عبدالملك المتوكل في نوفمبر 2014م، والصحفي عبدالكريم الخيواني في مارس 2015م، وُصُـولاً إلى العدوان السعودي الأمريكي على اليمن، والجرائم المتوحشة بحق آلاف المدنيين.
هيئة تحرير الصحيفة ومكتبها لم يكونوا بعيدين عن مخاطر هذا الاستهداف، ففي نوفمبر 2014م، أعلن المكتب السياسي لأنصار الله، أن حراسة المبنى اكتشفت عبواتٍ ناسفةً على عربة صغيرة تجرها دراجة نارية، كانت مبرمجة على التفجير عن بعد، وكانت ستؤدي إلى تدمير عدد كبير من المنازل، وضحايا بالعشرات، وقد تفاجأت شخصيًّا حين رأيت الصورَ المرافقة للخبر، فتلك الدراجة النارية ذاتها كانت بالقرب من مدخل مبنى الصحيفة المجاور للمكتب السياسي، وكنت وعدد من الزملاء قد مشينا بجوارها قبيل ساعة من اكتشاف أمرها، لكنَّ الله سلم.
واليوم وقد دخلت الصحيفةُ عامَها السابع، وبلغت العددَ ألفاً يمكن القول: إنَّ ألفَ شمعة قد أضاءت المسيرة، وإن مسيرة الألف ميل قد بدأت بخطوة واثقة وبنجاح تراكمي ترجم آمال القائمين عليها، حتى غدت الصحيفةُ وسائرُ وسائل الإعلام التابعة لشبكة المسيرة، عنواناً لصدق الكلمة، وللحقيقة التي تدمغ الباطل فإذا هو زاهق.