المسيرة.. ألفيةٌ أولى من الحضور “في الغياب”
صلاح الدكاك*
منتصفَ العام 2012 تلقيتُ اتصالاً هاتفياً من بيروت.. قال المتصل: “يُشَرِّفُنا أن تكونَ ضيفاً مداخِلاً على قناتنا المسيرة ظهيرةَ هذا اليوم”.
منذ فبراير 2011 كنت مداخلاً شبه يومي في حُزمة قنوات عربية وأجنبية لقرابة عام كامل.. كنت أشعر بالتزام للشارع الثوري يتمثل في تنبيهِ شباب الثورة للفِخاخ التي تُنصَبُ في طريقهم من قبل مطابخ الأحزاب والسفارات، وهذا ما جعلني أتغلَّبُ على مزاجي الذي لا يحبِّذُ الإعلامَ المرئي ولا المسموعَ.. استهلكتني المداخلاتُ شبهُ اليومية تلك، غير أن مساحةَ اهتمام القنوات بالشريحة الثورية التي يمثِّلُها رأيي ومداخلاتي بدأ ينحسرُ منقلباً بالضد، في تمهيدٍ لئيمٍ لتغييبِ صوتِ الآخر ضمن صفوف العمل الثوري الشعبي في اليمن، لجهة تكريس مبادَرة الأبراج العاجية الوِصائية للانقلاب على الثورة كـ “تتويج للمطالب الشعبيّة” و”ثمرة للثورة” حَــدَّ تسويقهم..
باتت المبادرةُ اللئيمةُ والإطراءُ عليها هي محورَ اهتمامِ القنوات العربية والأجنبية وأحزابِ السفارات وجرى دمغُ المشهد في اليمن بأُحاديةٍ مقيتةٍ ومفرطة في الزيف..
كانت رسالةُ مطابخ الوصاية من خلال ذلك هي “نحن من نشكل المشهد كيف نشاء وفي الوجهة التي نريد وبوسعنا شطبَ الآخر كليًّا منه بتشميع وسائط التعبير أمامه”!
كانوا محقِّين لحدٍّ ما، فالآخرُ الثوري بلا وسائط اتصال بالشارع هو أشبهُ بطائر مهيضِ الجناح وعديمِ الحيلة لدرجة كبيرة.. لكن هذه الفرضيةَ الصائبة بمستوى معيَّن لا تعني أن تغييبَ صوت الآخر الثوري إعلامياً يساوي موضوعياً غيابَ الفعل الثوري في أرض الواقع.
قلتُ للمتصل دون تريُّثٍ: “أنا بأمر قناتنا المسيرة متى شاءت فقد انفسَحَ بكم نَقْـبٌ ثوري في جدار الحِصار السايبراني تنفُذُ من خلاله الأصواتُ الحرة؛ لتؤكِّـدَ لقوى الوصاية استحالةَ تسيير الشعب كقُطعانٍ بكماءَ واختزاله في مجموعة صبيان الفِرقة وأطفال أنابيب السفارات وشقران تجار الشنطة أمناء عموم أحزاب ما يسمى المشترك المعارِض”..
ما بعدَ 2011 كان امتداداً لما قبله، حيث لا أحد يجرؤ على أن يطرُقَ بابَ وزارة الإعلام طامعاً في الحصول على ترخيصِ إصدار صحيفة ما لم يكن أحدَ غِلمان سلطة مراكز القوى الحاكمة بالإنابة عن الوصي الإقليمي والدولي، فهؤلاءِ وحدَهم مَن يحوزون امتيازَ الإصدار وليسوا بحاجة حتى لأن يطرقوا بابَ وزارة الإعلام، فهي ستبعَثُ لهم بتراخيص الصدور مذيلةً بعبارات الامتنان لهذه الخطوة الفارقة وبشهادات تطري وطنيتَهم..
في 2014، وكان زخمُ ثورة الحادي والعشرين من أيلول المجيد قد أصبح مداً لا يمكنُ لقوى الوصاية أن تكبحَه أَو تستفرغَه في هامش الفعل والحضور الغامر، بزغت “المسيرةُ الورقيةُ” وكقاربِ نجاة يمخَرُ عَبابَ التحديات، محفوزاً بالزخم الثوري راحت تمُــدُّ يدَها للمجدِّفين بلا ضِفاف منذ 2011 وتحدوهم إلى مرفأٍ مفتوحٍ على الحرية.. مثّلت المسيرةُ الصحيفةُ وربانها الزميل الرائع صبري الدرواني إيماضةَ نجمٍ في عتمة المشهد الصحفي المقروء والمتشابه حَــدَّ الاستنساخ.. إيماضة نجم أخذت تتسعُ وتدنو لتحُطَّ بضوئها على رفوف المكتبات والأكشاك وبين يدي شريحة من القُرَّاء تبحَثُ عن صدى صوتها المكتوم في رفوفٍ مشغولةٍ بأبواق موصولة بحنجرة سلطة أعادت إنتاجَ نفسها بوجوه أُخرى قبل طلوع بدرِ المسيرة القرآنية في سماءِ الأنصار وقبل أن ينثالَ نورُه من ثنايا المسيرة القناة والمسيرة الصحيفة وينبلِجُ به فجرُ الـ21 من أيلول المجيد، فيصبح للمستضعفين فضاءً يفرِدون تحتها قاماتِهم بعد قُرفصاء وتحديبٍ لعقود تحت سقف زمنِ الوصايةِ الخفيضِ والضاغطِ على الأضلاع والرِّئات.
لا شيء يجعلُني أشعُرُ بالأسى وأنا أُدَوِّنُ هذه الشهادةَ المختزلة بمناسبة ألفية المسيرة الصحيفة سوى احتجابها كورقية منذ أشهر لغير سبب معلوم وتحوُّلِها لصحيفة إلكترونية.
هذا الرغيفُ اليومي الساخن ينبغي أن يعودَ إلى أيدي الشُّقاة والكادحين الذين كانوا يسدون به رمقَهم ويستدفئون به في صقيع صباحات التحرير بالعاصمة قبل أن بدأوا مشوارَ كدحهم اليومية في طلب الرزق..
لا أعرفُ حكمةً واضحةً من وراء احتجاب ورقية المسيرة، لكنني أعرف جيِّدًا أن الحكمةَ كُـلَّ الحكمة هي في أن تعودَ وعاجلاً وكرئيس تحرير لصحيفة “لا” فإنني أعترفُ بأن ماراثون سباقِنا وتنافسنا كصحفيين ووسائل إعلام بناظم ثوابت الثورة وَمقتضيات المواجهة الوطنية الكبرى، يفتقدُ لعَدّاءٍ كنا نقيسُ سرعاتنا على إيقاعه اليومي.. ماراثون البذل الصحفي الوطني والثوري يفتقر لـ”المسيرة” ولربانها الزميل البهي صبري الدرواني بحق فأرجو أن نفتحَ أعينَنا ذاتَ صباحٍ قريبٍ على حضورِها الدافئ في رُفُوفِ الأكشاك والمكتبات وأيدي باعة الصحف الجوالين… نرجو ذلك وهنيئاً لمسيرتِنا ألفيتَها الأولى.
* رئيس تحرير صحيفة “لا” اليومية