نحوَ ألفية ثانية
المسيرة – ضرار الطيِّب
انضممتُ إلى طاقم صحيفة “المسيرة” أواخرَ عام 2016 تقريبًا، لأخوضَ أولَ تجربة “وظيفية” لي في العمل الصحفي، بعد أن كانت علاقتي بهذا المجال لا تتجاوزُ مساهماتٍ قليلةً، أغلبُها بالرأي، وقد مثلت هذه التجربة بالنسبة لي فرصة – أجد من الواجب اليوم أن اعبر عن امتناني لها – لتعلم ومعرفة الكثير ليس عن العمل الصحفي فحسب، فالعمل الصحفي يعلمك أشياءَ أُخرى أَيْـضاً من المواضيع التي يتناولها، وهي بالنسبة لتجربتي كانت أشياء مهمة جِـدًّا؛ لأَنَّ هذه التجربة تجاوزت مستواها “الوظيفي” (إن كنت أستطيعَ قولَ ذلك) بتداخلها مع تجربة أكبر وأشمل وهي العدوان على اليمن، الأمر الذي يجعل عملا كهذا ينصهر – بشكل ضروري – مع مواقف مبدأية ومسؤوليات وجدانية وفكرية ووطنية، وأنا لا أدَّعيَ هنا أنني حقّقت هذا الانصهارَ بالشكل الكافي.
الحقيقة أنني لم أظن أبداً، قبل الانضمام إلى الصحيفة، أنني سأعمل في مجال الصحافة، وبالرغم من أنني كنت منجذباً بشكل دائم لمتابعة الصحف، وساهمتُ لاحقاً ببعض كتابات صحفية، إلا أن الصحافة كـ”عمل” لم تكن تغرني إلا عندما أسمع صحفياً يطلق على آخر وصف “الزميل”، وبغض النظر عن سذاجة الفكرة، إلا أنني اليوم وقد أصبحت “عاملاً” في هذا المجال، أرى هذه المفارقة دليلاً على ما أحدثته تجربتي الصحفية المحدودة من تغيير كبير لا أقول: إن سببه مُجَـرّد التعود على العمل، بل اكتشاف قيمة التجربة والآفاق المثيرة التي تفتحها، ولو أنني شخصياً لا زلت أمتلك أفكاراً، لا يناسَبُ المقامَ لطرحها، حول مشاكل وتعقيدات الصحافة كـ”وظيفة”.
أتحدث عن تجربتي الشخصية؛ لأَنَّني أعرفُ أن الزملاءَ الأعزاءَ قد سبقوني بلا شك في الكتابة بما يكفي عن اختتام الألفية الأولى للصحيفة؛ ولكي لا أكرّر هنا ما كتبوه، ربما يجب أن أتحدث عن الجانب الآخر من هذه المناسبة، فاختتامُ ألفية أولى يعني افتتاحَ ألفية ثانية، وهو حديث لا يتعلق بصحيفة المسيرة بالذات، بل بمستقبلِ الصحافة الورقية بشكل عام.
لا تستطيع أن تتناولَ مستقبل الصحافة الورقية (منها صحيفة المسيرة بالتأكيد؛ لأَنَّها لا زالت كذلك في المضمون حتى وإن غابت عن المكتبات والأكشاك) بدون الحديث عن تأثير الصحافة الإلكترونية، بل نستطيع القول: إن هذه الأخيرةَ هي من أسهمت بشكل رئيسي في خلق التساؤلات حول مستقبل الصحافة الورقية من كُـلّ النواحي؛ لأَنَّ صحافةَ الانترنت خلقت منافسةً شرسةً مع الصحف الورقية، وهي منافسة يلاحظها كُـلّ من يعمل في الصحافة، وأول ما تخلقه هذه المنافسة هو التحدي الذي يفرض على الصحف الورقية أن تجعلَ من نفسها أكثرَ جاذبية وفائدة من منافستها الرقمية.
في “المسيرة” حاولنا بجُهدٍ خلال ألف عدد، أن نقدمَ شيئاً يتميّزُ عن ما تقدمه الصحافة الإلكترونية سواء من خلال الحصول على المعلومة والانفراد بها، أَو من خلال تحليلها وعرضها، ولم تكن المسألة سهلة بالنظر إلى طبيعة “المسيرة” كصحيفة ناطقة باسم “أنصار الله”، الأمر الذي يفرض معاييرَ إضافية؛ للتحقّق من المعلومة وتوقيت نشرها، وهي معاييرُ تتداخلُ أَيْـضاً مع طبيعة “المعركة” الإعلامية التي تخوضُها الصحيفةُ كجُزءٍ من معسكر الإعلام الوطني المناهض للعدوان.
أقول هذا؛ لأَنَّني -كأحد أفراد طاقم الصحيفة- استمعتُ إلى الكثير من ملاحظات الجمهور و”النُّخَب” حول أداء الصحيفة، والكثير منها كانت ملاحظات مهمة في الحقيقة، لكنني لاحظت أن هناك التباساً غيرَ متعمَّد يحصلُ عند البعض الذين يطالبون الصحيفةَ بنوع من “الإثارة” لا تتناسَبُ مع طبيعتها لا كصحيفة “ورقية” في المقام الأول، ولا كصحيفة “ناطقة”، وأعتقد أن السطوةَ التي تمتلكُها الصحافةُ الإلكترونية اليومَ قد خلقت معاييرَ تدفعُ جزءاً من الجمهور إلى أن يحاولَ تطبيقَها على جميع أنواع الصحافة، ولا أعني بالطبع أنه لا يوجد أي قصور لدى “المسيرة” فالكمال لله وحده.
كُـلُّ ما في الأمر أننا عندما نتحدَّثُ عن رحلة تبدأ اليومَ مشوارَ ألفيتها الثانية، وعندما يجبُ أن نضعَ تقييماً للألفية الأولى، يجب أن ننبِّهَ إلى حقيقة أن “المسيرة” لم تكن، ولا يمكن لها أن تكون، صحيفةً باحثةً عن “الإثارة” فقط، كما لا يمكنها أن تستبدلَ خصائصَها كصحيفة ورقية يجب أن تهتمَّ بالدقة والتحليل والاتِّزان، بخصائص الإعلام الإلكتروني الذي يميلُ إلى العرض المستعجَل للمعلومات، ويعوض هذا الاستعجال بكونه أسرعَ في الوصول إلى الجمهور.
وبالتالي، أعتقد أن التحدي الحقيقي الذي تواجهه “المسيرة” اليوم وهي تفتتحُ ألفيتها الثانية، هو تطويرُ قدراتها كصحيفة ورقية، آمل أن تعودَ إلى الأسواق مرة أُخرى، وأن تستطيعَ البناءَ بشكل أفضلَ على الأَسَاس الصلب الذي وضعته لنفسها خلال ألف عدد، لا أن تغير نفسَها بشكل جذري وتبدأ من جديد.
وأعتقد أَيْـضاً أنني قد أطلتُ الكلام، لكن لا مجالَ لأن أنهيَه قبل أن أعود إلى تجربتي الشخصية سريعاً وبشكل غير مبرّر (أنا سيء في كتابة المقالات)، لأشكر صديقي وأُستاذي العزيز، عبد الوهَّـاب المحبشي، الذي اقترح عليَّ تجربةَ العمل في المجال الصحفي قبل سنوات، ولولا ذلك الاقتراح لَما كنت هنا.