الــــهُــويـَّــةُ الــزراعـــيــَّـة
المسيرة: سيف الدين المجدر
الزراعة هي الشيء الذي لا غنى عن وجوده أبداً في حياة الإنسان، مهما بلغ مستوى التقدم والتطور في واقع البشرية، فلا بد أن يبقى البشر على ارتباط وثيق بالتربة، والماء، والزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وهذا الارتباط ليس معياراً للرقي والرفاهية، هذا الارتباط جزء من عوامل استمرار الحياة على هذا الكوكب، وبنظرةٍ قاصرة وغبية البعض قد يقول: إن هذا المجتمع ما زال بدائياً؛ لأَنَّ أفراده لا يذهبون لشراء حاجياتهم من السوق، بل هم يعتمدون على ما تنتجه الأبقار من حليب وعلى محصول الحبوب الذي تجود به أراضيهم، بينما المجتمع الآخر مجتمع متميز، راقي، حضاري؛ لأَنَّه لا يزرع، ولا يعرف الأبقار والأغنام ولا تروق له رائحة (الروث) وجميع أفراده موظفين حكوميين وَفي شركات ولن يضعوا أنفسهم في هذا المستوى، وهم يأخذون كُـلّ شيء من السوبر ماركت..
هذا هو واقعنا للأسف ننظر للمزارعين (الرعويين)، والمهنيين بتلك النظرة الحمقاء، ونتكدس جميعنا على أبواب المؤسّسات والشركات؛ مِن أجلِ الحصول على الوظائف، أي تفكيرٍ هذا! ونريد أن نصنع دولة قوية بهذا التفكير!!.
إن أهميّة الزراعة مثل أهميّة الأوكسجين، والماء، فلن نعيش بدون أن نتنفس، أَو نشرب، وكذلك لن نعيش بدون أن نأكل، ونحن كمسلمين لدينا صراع قائم مع الأعداء على كُـلّ المستويات، وهذا أحد المداخل التي تتسلل منها الأيادي الصهيونية، لتحكم القبضة علينا وتسلبنا قرارنا وتدجننا، وهذا أمرٌ يتعلق بمصير الأُمَّــة، وإقامة دين الله في أرضه.
الزراعة في بلادنا
إن بلادنا من أفضل البلدان الصالحة للزراعة ويرجع ذلك لوجود العوامل المناسبة لذلك، كتنوع المناخ والتضاريس وغيرها من العوامل التي تجعل منها (بلدةً زراعيةً طيبة)، وكانت سيادة القرار تكمن في اكتفائنا الذاتي من الحبوب، ولم يكن الاكتفاء صعباً أَو محال، أتعلمون لماذا؟؛ لأَنَّ الإرادَة كانت موجودة، والقرار كان قرارَ الشعب والقيادة، وبالرغم من بدائية المعدات وعدم وجود الخبرات البحثية، إلا أنه كان الاكتفاء حاضراً، ولدينا كشعب يمني ارتباطٌ وثيق بالزراعة، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى ذلك في القرآن الكريم في أكثر من آية، وهذه دلالة واضحة على مدى قوة ارتباطنا بالزراعة، أي أنها هي جزء من حضارتنا.
الغريب في الأمر أن هذا الاكتفاء من الحبوب كان حاصلاً في عام 1962م وما قبل، وعندما نستذكر الأحداث التاريخية، والأزمات العالمية، التي حدثت في تلك الحقبة، نجد أن شعبنا اليمني لم يتأثر بها أبداً، بل كنا نقوم بمساعدة دول عظمى بالحبوب، وحين نتحدث عن الاكتفاء الذاتي من الحبوب نحن نتحدث عن (هُـويـة زراعـيـة) تاريخية خَاصَّة بنا نابعةٍ من ثقافة الإباء والكرامة وعزة النفس، هُويةٌ كانت تكفينا الحاجة إلى المساعدات، وتكفينا تقديم التنازلات السياسية؛ مِن أجلِ القليل من الغذاء، ولو نظرنا إلى وضع الزراعة بعد 1962م بالتحديد، نجد أن الجانبَ الزراعي أخذ نصيباً من ذلك الانحراف الذي حدث، وهو انحرافٌ شيطاني وخاطِئ قتل الشعب.
تسارع الانهيار في الجانب الزراعي حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وكان هناك (انسلاخٌ معيبٌ) لـوزارة الـزراعـة وللوزراء الذين تعاقبوا على هذه الوزارة، ونجد أن هناك حالةً من الغباء، أَو الاستغباء المقصود الذي ارتقى حتى أصبح عاهةً فكـريـة، لدى العديد منهم وما زالت العاهة الفكرية موجودة عند البعض للأسف الشديد..
لقد كان ذلك عدواناً خارجياً ممنهجاً ومركزاً على الزراعة، نعم كان عـدوانـاً يمهدُ للغزو الأكبر، ولا يوجد غزاة بدون عملاء، وكان هناك من يسهّل لهذا العدوان تمريرَ مخطّطاته الإجرامية التي تمسُّ بالأمن القومي لهذا البلد، زمرةٌ من المتشدقين بالوطنية والقومية، المتزينين بربطات العنق (الكرفتات)، المختبئين خلف الشعارات الـبـرَّاقـة، أجـرمـوا بحق هذا الشعب العزيز والكريم.
(المحنَّكون القُدَامَى) الذين ما زالوا يشعرون بالفخر الذي لا يصاحبه أي ندمٍ أَو ألم لما قدموه لهذا الجانب، وأهم تلك الإنجازات توقيعهم على اتّفاقياتٍ تقضي بعدم زراعة القمح، انظروا لهذه الكارثة!، ولهذه الوطنية المنقطعة النظير، حكموا على شعب كامل بالارتهان، يا إلهي!! أي عقولٍ كانوا يمتلكونها هَؤلاء الحمقى؟!، الأمر ليس طبيعياً لا بُـدَّ أنهم كانوا يتعاطون بعض الأدوية التي كان لها آثارٌ جانبية على التفكير، والغيرة على بلادهم.
(قُـبـح القلم الذي وقـع وقُـبـح حامله).
ثورة غيَّرت المعادلات
لكن هذه الرموز لم تعد خالية الوفاض، كيف يكون ذلك وهم (المحنَّكون)، لقد أبقوا فقط على البعض من المحاصيل الزراعية كالفواكه والخضار والـبُـن، انظروا كيف بدأت الانتكاسة من بعد 1962م وعاشت الزراعة لحظات الموت الـبـطـيء.
من المفترض أن الشعب اليمني يقوم بتكريم (المحنَّكين القُدَامَى) على ذلك الانبطاح المُـطلـق لكلِ القرارات الخارجية.
والأصح من المفترض أن الشعب اليمني العظيم يقوم بمحاكمتهم؛ لأَنَّهم (زمرةٌ من القتلة والمجرمين).
نعم قتلة!! قتلوا سيادة البلد وقتلوا أحلام الشعب في العيش بكرامة، وتسببوا وهم يعلمون ولا يجهلون في مقتل الآلاف من أبناء الشعب اليمني الذين كانوا يُقتلون من قبل جنود حرس الحدود السعودية، وغيرها من الدول، بينما هم مهاجرون يبحثون عن لقمة العيش، والسبب أَنَّهم لم يجدوا عملاً في بلادهم ولو سألت عنهم لوجدت أنهم يمتلكون مساحات زراعية شاسعة في بلادهم، ولكن (المحنَّكون القُدَامَى) صنعوا الفقر والعجز في نفوس الشعب وضخموا الصعوبات أمام الزراعة وجعلوا من أسهل الأشياء مستحيلة.
نحن عندما نتألم كشعب يمني ونطالب بمحاكمة قتلة أية شخصية وطنية، مثالاً على ذلك إبراهيم الحمدي، نحن لا نتألم ونسخط، على مقتله كشخص فقط، بل نحن نتألم أَيْـضاً على اغتيال مشروع دولة تنموي أحلم به أنا كمواطن يمني ويحلم به بقية أبناء الشعب.
جاءت ثورة (21 سبتمبر) المباركة وتغيرت المعادلات واتجه الشعب تحت راية القيادة الحكيمة إلى البناء وإصلاح ما خربته تلك الأيادي الآثمة في كُـلّ الجوانب، ونلاحظ التوجّـه الزراعي العظيم من قبل قائد الثورة السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي – حفظه الله – والذي أوصى في أكثرَ من خطاب بالاهتمام بالجانب الزراعي، وبذلك لا عذر لأحد بعد توجيهات قائد الثورة، ويسعى الشعب اليمني العزيز إلى الاكتفاء الذاتي من الحبوب كأولويةٍ لا تقبلُ النقاش، لا نريد أن نـكـون مثل (المحنَّكين القدامى) أبطال مـعـركـة عـصـيـر المانجو (المجموع) المنهزمين أمام مشروع الاكتفاء الذاتي السيادي الذي يرتكز على الاكتفاء الذاتي من الحبوب..
نحن نريد أن نكتفيَ من الفواكه والبُن ومن كُـلّ شيء، قد يربط اقتصادنا بالخارج، لكن الآن لا وقت لدينا وهناك أولويات، والحبوب أهم، بالعقل والمنطق ولها الأولوية؛ لأَنَّه إذَا ما تحصرنا حصاراً تام، لن تنفعنا دلة الـبُـن (الصافي) ولن يخفف عنا شدة الحصار عصير المانجو (المجموع)، والحمدُ لله الذي مَنَّ علينا بأمطار الخير التي لم تشهدها بلادنا منذ قرابة أربعين عاماً، وارتوت الأرض وعادت العيون في معظم المناطق إلى الجريان، وما هذا التغير المناخي الذين يتحدثون عنه إلا آية من آيات الله {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ}.
إلى كُـلّ من ما زالوا يعيشون الوهم، إلى كُـلّ من ما زالوا يعيشون في عقلية الجاهلية الراحلة، كـفـاكـم تـَيهـاً وحـمـاقـةً، واصنعوا شيئاً طيباً يرضى به اللهُ عنكم، ويذكركم به شعبكم بالخير، فواللهِ لا فائدة من الانصهار في (بوتقة الأنانية، والتخاذل، والعنادُ بالباطل) لقد وَلى عهدُ الاستغباء المتلبس بالعلم والحرص على الوطن، إن الشعب اليمني به ما يكفيه من الخذلان الذي تعرض له في الماضي ولن يصبر على من يقفون عثرةً أمام طريقه إلى النور، والثورة مستمرة.
قال تعالى: {وَاتَّقُوا يوماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إلى اللَّهِ، ثُمَّ تُوَفَّى كُـلّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ}.